Nicolas Abou Mrad
Deacon Ignatius Hazim (later Patriarch Ignatius IV of Antioch), writing in 1946, urged Antiochian Christians to be aware of their responsibilities and commitments as members of the Church. He presented them with two choices: either to be indifferent to spiritual revival and to remain outside Orthodoxy, or to make every effort to revive the Antiochian Church and bring it out of the miserable state to which it was reduced after the Second World War. He made the striking affirmation that each committed Christian should care for others spiritually as if he were their pastor." ***** “Patriarch Ignatius IV has always insisted on the fact that Arab Christians belong to the Middle East: they are not guests. They have been living and witnessing in that region, proclaiming belief in the one God, since long before Islam conquered and established itself there. Patriarch Ignatius speaks in terms of Christians and Muslims believing in one God who embraces in his providence all peoples, regardless of their beliefs. Despite the historical difficulties that have led to mutual rejection, the Patriarch sees that life goes beyond mere controversies and disputes. Muslims and Christians in the Arab world have experienced a common life: they both trust in divine providence, and attach the same value to humility and the need to surrender oneself to God, which is what ‘Islam’ really means. Ignatius IV speaks of plurality in the framework of love. For him, plurality is a form of obedience to the divine will. He invites Eastern Christians to share with Muslims the concerns of justice and peace and affirms that when one humbles oneself, one permits life to bear fruit despite the violence and disappointments of history. The Christians of the East have not shared the spirit of the Crusades, but that of the Cross. They did not make Christianity a closed, separate identity, but ‘the humble and radiant presence of the life-giving Cross’. Hence they must always be in solidarity with those around them ‘without naivety, yet without hate; without compromise, yet without fear’. This solidarity should be expressed in the attitude of Antiochian Christians towards the issues troubling the Arab East to which they belong, such as the question of Palestine. Patriarch Ignatius invites Eastern Christians to acknowledge Jerusalem as the heart of humanity, a crucible where many religions and religious values interact and co-exist; he describes racism and apartheid in Palestine as ‘a stain on the brow of truth and justice’. In the context of the troubles that shake the region, he speaks of the Church of Antioch standing in the midst of the ‘bloodbath of the Middle East’ as ‘an unarmed, non-violent and confessing Church’.” ***** “On the local and regional level, the Middle East Council of Churches (MECC) was founded in Nicosia (1974). The MECC is an independent regional structure which concentrates on facilitating unity and allowing the Churches to work together. The Church of Antioch has been a member of MECC since its foundation. Some of its members, particularly Patriarch Ignatius IV, played an important role in leading the MECC and orientating it. Achievements within the context of the MECC include work on common textbooks for religious education to be used in schools in Lebanon, agreements between Orthodox and local Catholic Churches on mixed marriages, religious education in schools and first communion, and the important agreements on pastoral matters between the Antiochian Orthodox Church and the Syriac (non-Chalcedonian) Orthodox Church in 1991. Patriarch Ignatius IV sees Antioch as having a special role to play on the ecumenical level. Faithful to the spirit of its best-known bishop, St Ignatius, it always recalls that the genuine Christian is one who loves others and feels concerned with whatever befalls any other Christian, wherever he or she may be. It therefore has something to say regarding the ecumenical reconciliation of other Orthodox or non-Orthodox Churches, and on other live issues preoccupying the Church today, such as the challenges of modernity” Excerpts from my article “The Witness of the Church in a Pluralistic World: Theological Renaissance in the Church of Antioch”, published in the Cambridge Companion to Orthodox Christian Theology, Cambridge University Press: 2008, pp. 246-260. "لأنّه هو سلامُنا" (أفسس 2: 14 )
لوقا 12: 16 - 21 أفسس 2: 14 - 22 نقولا أبومراد نحنُ في زمن الميلاد. والميلادُ، في تعليمنا والكتاب، ليسَ احتفالاً بولادة جسديّة، بل هو تذكيرٌ لنا بأنّ يسوعَ الكلمةَ، إن لم يَلِدْ كلَّا منّا، وإن لم يلدْه كلٌّ منّا، فلا نكونُ سوى جسدانيّة رثّة آيلة إلى الفناء والغبار. ويسوعُ الكلمةُ يلدُنا في السلام ولأجل السلام، ولذا لا تستقيمُ الجدرانُ بين الناس، مهما اختلفوا، فالجدرانُ عداوةٌ، والعداوةُ، في الكتاب، هي أصلُ الخطيئةِ، لا بل هي الخطيئةُ، هي زللُ الانسان. حينَ خلقَ الله الأرضَ وما عليها، يقول كتابُنا، لم يكن ثمّة جدرانٌ أو أسوارٌ، إلاّ الحدود التي جعلها الله للعنفِ في صورةِ المياه الهائجة، حين حوّل هيجانَها المميتَ إلى عجيجٍ بالحياةٍ، وحركتَها إلى فيضٍ لحياةٍ في عروق الوجود. غير ذلك لم تكنْ ثمة حدود. الانسانُ هو الذي أقام الأسوار. شيّدها لأنّه غَرِق في الانانيّة، وابتعدَ عن دعوتِه إلى أن يكونَ رُكْنًا في مصالحةٍ أنشأها اللهُ بين كلّ ما هو موجود. والجدرانُ يبنيها الانسانُ، كما نقرأ في فصول التكوين الأولى، بين الرجل وامرأته، وبين الأخ وأخيه، وبين أمّة وأمّة، ولغة ولغة. يبنيها بينَ مَن يخال نفسَه عظيمًا ومَن يراهم سلعةً بين يديه. ونرفع الأسوار والجدران والأسيجةَ بيننا وبين مَن نعتبرهم مختلفين عنّا في الدين، وفي العرق، وفي الجنس، وفي الميول الشخصيّة، والميول السياسيّة، والمكانات الاجتماعيّة. نبني الجدرانَ أحيانًا كثيرةً في تاريخنا، ولا نرعوي، ولو كانت هذه الجدرانُ دافعًا لنا للقتل الوحشيّ والابادة العنصريّة وكلّ أشكال العنف الهمجيّ، ولم تعرف الطبيعةُ همجيّة كتلك التي للانسان، وذلك لأنّ حركيّة الطبيعة، بلا الانسانِ، هي إلى استمراريّة الحياة في أشكالها الجمّة، لا إلى استمراريّتك أنت وحدك على حساب كلّ شيءٍ، فأنت لست إلاّ جزءًا صغيرًا، ذرّةً، من هذا الكلّ الذي هو لله وفي الله، كما في إيماننا. يقول الرسولُ في قراءة اليوم من الرسالة إلى أهل أفسس، إنّ المسيحَ يسوعَ، قرّب البعيدين، وجعل الأجانبَ من أهل البيت، والغرباء في سكنى الراحة، وأنّه جمع ما سَوَّرْنا بينَه، وجعل المتفرّقين في معيّةٍ، والمختلفين في اتّفاقٍ، وإنّه فعل هذا في "جسده"، أي في كونِه ذاك الذي شاءَ اللهُ المتعالي المحجوبُ الجبّارُ العظيمُ القهّارُ الذي لا يُرى الضابطٌ كلَّ شيء الأبديُّ الوجود أن يصير فيه عبدًا منظورًا في ضعفِ الجسدانيّة وهشاشتها متّضعًا حتّى الامّحاء مضبوطًا عليه من أمراء هذا الكون ميتًا موضوعًا في قبرٍ. هَدَم، في جسده، سياجَ العداوةِ، حينَ صار هو لقاءَ الآلهة مع بني البشر بلا اغتصاب، فيما تَصَوَّرَ البشرُ هذا اللقاء، وحقّقوه في ذواتِ العظماءِ لقاءً لأجل العداوة والحروب. في المسيح يسوعَ تدحرجَ تاجُ الألوهة على حضيض المسكنة، وبات المسكينُ هو الله، وغدا صليبُ المسكين عرشَ الله، كما يقول الرسول: هو الذي صالح الاثنين في جسد واحد بالصليب، قاتلاً به العداوة. لا تُبادُ العداوة إلاّ بالصليب، أي حين يُميتُ الناسُ ظلمَهم، وشرَّهم، وكبرياءَهم، ويرون أنفسَهم متروكين إلاّ من رحمة الربّ. حينئذٍ تُهدَم الجدرانُ ونغدو جميعًا في "بيت الله"، أي حيث تصيرُ كلّ المطارح مطارحَ لله وحده، ونصير جميعًا رعيّةً تسير إلى حيث وجه الله. أقول هذا ونحن نشاهدُ كيفَ تصير الأسوار أمامَ أعيننا مقتلاً للناس، في فل_سط_ين الجريحَ التي صارت أيقونةَ الختن الذي صفعه ويصفعه حرّاس هيكلٍ مبنيّ لأجل العهر والفساد. ونرى كيفَ يقيمُ رؤساء هذه الأرض، في عبثيّةٍ مطلقة، أسوارًا للتعمية على الحقّ الظاهر فيما هم يريدوننا أن نرى الكذب ونقبلَه حقًّا. إنّه الكذب. وهو السور الأكبر بين الانسان وكلمة الله. العالم في فسادٍ كبير، وعداوةٍ لا تُطاق، والدم البريء يسيلُ والمتفرّجون ينقادون في سيل الكراهية الجارفةِ، ونحن منهم. ثمّة هيكلٌ بناه الربّ في جسده، يقول الرسول، لينموَ مقدسًا له. وينمو الهيكلُ حين نصير نحن مداميكَ فيه، بعد أن نكون قد حطّمنا المداميك التي تفصلنا عن الغير، لعلّنا نُبنى فيه مسكنًا للروح. كيفَ نُبنى مسكنًا للروح؟ في مرحلتين أقولُ: حين نهدم الأسوار التي في ذهننا، ثمّ حين نعمل على هدم الأسوار في هذا العالم. ولذا أن تكون للمسيح، متصالحًا مع كلّ شيء، يعني أن تكونَ رسولَ المصالحة في أرضنا. وأن تكونَ رسولاً للمصالحة يعني أن تقبل المهمّة الصعبة في أن ترفعَ صوتَك جهارًا وأن تشهد للحقّ ولو قُضي عليك لأجل هذه الشهادة، فتكون قد أثمرت، لا للهلاك، بل لحياةٍ أفضل. لا تكونُ كنيسةً لله حين تصمت أمام الظلم، بل حين تسمّي الظالمَ وتنطقَ بالحقّ عاليًا. في القراءة من الانجيل مثلُ الغنيّ الذي يكنز لنفسه، يخفى عليه أنّه ميتٌ. ماذا ينفعك أن تبني لنفسك جدرانًا وأنت والجدران ستفنون من دون عودة. وفي أحيانٍ كثيرة نبني جدرانًا حول كنيستنا، حين نقول إنّنا في أمن، فما لنا وللآخرين. أنت، في هذا تكنز لنفسك ثمارًا فاسدة. وإذا أردت أن تكنز لنفسِك اليومَ ما هو باقٍ إلى الأبد، فانظر إلى جسد المسيح الذي حقّق المصالحة، واذهب وصالحِ الاخوةَ وكُن مِلْحًا في هذه الأرض ونكهةً طيّبة بين بشر لم يعرِفوا شيئًا آخر إلاّ أن تفوحَ على أيديهم روائح الموت. نقولا أبومراد في المَشهَد الذي يقدمّه لنا لوقا في قراءة اليوم من الإنجيل، يضعُ يسوع عالمًا في الشريعة اليهوديّة (أي لاهوتيًّا ومتخصّصًا في علم الشريعة بِلُغَةِ اليوم) في مواجهة مَع شخصيّة هي نقيضُه في منظوره. فأهل الاختصاص في الشريعة اليهوديّة كانوا يعتبرون السامريّين هراطقةً وكفّارًا. وعندهم أنّ أهل السامرة مرذولون، وما كانوا يخالطونَهم البتّة، حتى إنّ التعاملَ معهم كان يُعتَبَر خطيئة، لا بل تجديفًا. والسامريّون – المستمرُّ وجودُهم إلى يومنا في جماعة صغيرة في شمال فلسطين – كانوا من المتحدّرين من الإسرائيليّين الذين عاشوا في السامرة، عاصمة مملكة إسرائيل الشماليّة، مقابلَ مَن عُرِفوا لاحقًا باليهود، وهم سكّان اليهوديّة المتحدّرون من أهل مملكة الجنوب وعاصمتها أورشليم. وفي حركة التطوّر التاريخيّ لهاتين الجماعتين الدينيّتين، نما عداءٌ بينهما لاختلاف المنظور الدينيّ عندهما، لا سيّما في ما خصّ هيكل أورشليم الذي رفضَه السامريّون كمكان مركزيّ للعبادة، وبقوا يقدّمون عبادتهم والذبائح على جبل جريزيم في الجليل – على مقربة من نابلس الحاليّة. أمّا من جهة الكتاب المقدّس، فكان السامريّون يقرأون كتب الشريعة فقط، وما قبلوا الأنبياء وكتب الحكمة، الأمر الذي اعتبره اليهود هرطقة، وعمّق العداء بين الجماعتين. غير أنّ ما تجدر إليه الاشارةُ أنّ يسوعَ الذي كان يُخاطِب عالمًا للشريعة يهوديًّا، كان يعرف احتقارَ اليهود للسامريّين. ولكنَّه - وهذا مُلفِت - يبيّن لهذا الناموسيّ أنّ مَن يعتبره هو هرطوقيًّا، وبعيدًا عن حقّ الديانة اليهوديّة، كان، في واقع الحال، أشدّ معرفةً منه بالشريعة، وذلك لأنّه أدرَك، في تعامله مع الانسان المجرَّح، عُمْقَ معنى شريعة الله، ولم يكن مجرّد معيدٍ لأحكامها غيبًا، وعن ظهر قلب، كما هي حال معلّم الشريعة. والأمرُ الآخر الذي أودّ ذكرَه هنا، ويساعدنا على إدراك معنى هذا المشهد ومَثَلِ يسوع، أنّ السامريّين، مقارنةً باليهود، في تلك الفترة – وحتّى يومنا هذا – كانوا جماعةً صغيرة مستضعفةً، وما كان لديهم ذلك الحضور السياسيّ والدينيّ كاليهود الذين تمتّعوا بنوع من استقلال وحكم ذاتيّين، وكانت أورشليم تُعتبَر عاصمتهم، وهيكلُها كان رمزًا لحضورهم، وعلامة على استقوائهم على الجماعات الاسرائيليّة المرذولة منهم، كالسامريّين وغيرهم. نحن إذًا أمام مشهدٍ فيه تفاوتٌ في المعرفة والعلم والاختصاص والقوّة، بين يهوديّ ضليع في علوم الكتاب واللاهوت اليهوديّ، وبين سامريّ عابرٍ لا نعلم مِن أين أتى ولا إلى أين كان ذاهبًا. ولكنّ ميزان القوّة الذي كان يميل لناحية اليهوديّ، قلبَه يسوع رأسًا على عقب، فرسمَ أمام عيني الناموسيّ معادلةً جعل فيها السامريّ الكافرَ، في ما فعله، محقّقًا لكلام الربّ في شريعته، فيما ظهر الناموسيّ جاهلاً، ولو كان، كما قال عنه يسوع "يقول الأمور كما هي في الواقع" حين أجابَه بأنّ الساعين إلى الحياة الأبديّة يجب أن يحبّوا الربّ ويحبّوا القريب. هذا أجاب به الناموسيّ بالصواب. وهذا أدركه الناموسيّ، أيضًا، بالعقل، وكرّره، غير أنّه جَهِل مَن هو القريب، والحقيقة أنّ معرفة مَن هو القريب هي أساسٌ لتطبيق شريعة الله هذه. وهذا ما سيبني عليه يسوعُ مثلَه ليريَه أنّ القريبَ هو "أيّ إنسانٍ معذّب" لا يقوى، من دون محبّة الناس، على العيش. ولعلّنا، إذا ما عدنا إلى مدلولات التسميات التي ترد في هذ المشهَد، يتكشّف لنا ما في مثل يسوع عن السامريّ الرحوم من قوّة. فثمّة تضادٌ، كما ذكرنا، بين النظرة إلى عالم الشريعة والنظرة إلى السامريّ. فالأوّل، عند اليهود، قياديّ، معلّم، حافظٌ، بالضرورة، للشريعة، فيما الثاني جاحد. ولكن، من الناحية اللفظيّة، ثمّة دلالة مهمّة: لفظة السامريّ تعني، في العبريّة، "الحافظ للشريعة"، وهي مشتقّة من جذر الفعل المستعمل في لغة العهد القديم للكلام عمّن يطبّق أحكام الشريعة. إذا أخذنا هذا في الاعتبار، يكون لوقا قد وضع أمامنا، في هذين المشهد والمثل، معلّمًا وعالمًا، في اليهوديّ، ومطبّقًا لكلمة الله، في السامريّ الحافظ والمتمّم فعلاً وصايا الربّ. ثمّ يكثّف يسوع هذا المثلَ ودلالاته التي أشرنا إليها بإدخال وجهَين دينيَّين آخرَين عند اليهود، هما الكاهن واللاويّ، ويصوّرهما متخاذلَين في تطبيق أحكام الشريعة. هاذان لهما دور عباديّ مركزيّ في هيكل أورشليم. أوّلهما مقدّم للذبائح، ذبائح التكفير عن الخطيئة واسترضاء الله، وثانيهما مولج بتنظيم وترتيب العبادات والصلوات في الهيكل. كلاهما لا يلتفتان إلى الانسان المُجرّح. وهكذا يصيرُ، عند يسوع، العالم بالناموس ومعلّمه، والكاهن مقدّم الذبائح إتمامًا للناموس، واللاويّ المناط به أمر ترتيب عبادة الله في الهيكل، يصيرون مخالفين لما يدّعون أنّهم يحفظونَه، ويصير مَن يتّهمونه بأنّه جاحد وكافر بالله، محقّقًا فعلاً للشريعة وحافظًا لكلمة الربّ. وعلى مستوى آخر، نجد في مثل يسوع عن السامريّ الشفوق، بعدًا مهمًّا لا يبانُ لنا واضحًا إلاّ إذا قرأنا النصّ اليونانيّ الأصليّ. ويظهرُ هذا البعدُ في التوازي بين التسميات، تسمية "الناموسيّ، والكاهن، واللاويّ، والسامريّ، والانسان المجرَّح". في هذه المواقع الخمسة، يستعمل لوقا حرفًا يونانيًّا، يدلّ على شموليّة التسمية. للإيضاح أورد ترجمة عربيّة تقريبيّة للأصل اليونانيّ: "وإذا ناموسيّ ما... إنسانٌ ما... كاهنٌ ما.... لاويّ ما... سامريّ ما....". هذا الحرف اليونانيّ يؤكّد، من جهة، على التسميّة، ويعمّمها من جهة أخرى. وفي قراءتي أنّ الغاية أنّ يبرز التسميات على أنّها تسميات لفئات أقامها الناس وجعلوا بينها حواجزًا وحدودًا، وأن يقابلَها مع تسمية "إنسان" التي تغيب فيها كلّ الحدود والفئات والجماعات، وتدلّل على تساوي الناس مع بعضهم البعض. فالناموسيّون فئة جعلت نفسها مجموعة تحصر في ذاتها فهم كلمة الله، والكهنة فئة حصريّة خصّصت ذاتها بالذبائح، واللاويّون سلالة لا يقوم أحد غيرها بالخدمة في الهيكل، والسامريّون سمّوا هكذا لتمييزهم عن اليهود.... أمّا في عبارة "الانسان"، فتغيب الحواجز، وتغيب الطبقيّة، ويغيب التمييز. هذا الانسانُ، الذي اسمُه كاسم الذي خلقه الله، في تك 1، على صورته ومثاله، مجرّح، منبوذ، يحتاج إلى المحبّة، والمحبّة لا يطبّقها إلاّ مَن خرج من جماعته، وأهمل الفئويّة والتعصّب، ونبذ كلّ شكل من أشكال التمييز، والتفت إلى الانسان الآخر المحتاج. في هذا الانسان المجرّح يصوَّر يسوع نفسه، الذي قالَ عنه بيلاطسُ حين جيئَ به إليه مجرّحًا ومكلّلاً بالشوك، قال عنه "هذا هو الانسان". وهكذا، إلى جانب التمييز بين مَن يعرف الشريعة ومَن يطبّقها، يلغي يسوع في مثله الفئويّة التي أقامها البشر جدرانًا وأسوارًا تفصل بينهم، ويجعل البشريّة، معذبّةً، وعلى صورتِه متألّمًا، قِبلةَ المحبّة، لعلّ الناس يعودون إلى الأصل، إلى حسن الصورة التي جعلهم الله عليها، وشاء لهم أن تتجلّى فيهم حتى نهاية الأزمان. نقولا أبومراد "السلام عليك يا أيّتها المستقرّة في البطولة، يا مدينة الرفض الكبير، بك وبأمثالك يعظم الانسان، وبأمثولاتك البليغة تكتبين ملحمة الشعوب" (المطران جورج خضر) بعدَ مآسي الحرب العالميّة الثانية وما رافقَها من تمييز عنصريّ ودينيّ ضدّ اليهود الأوروبيّين، سنّت البلدان الأوروبيّة، وفي مقدّمتها ألمانيا قوانينَ لردعِ المواقف أو الخطابات أو الأفعال التي تعبّر عن كراهية أو عنصريّة إزاء المنتمين إلى الدين اليهوديّ. وقد اتُّفِق على تسميةِ أيّ موقفٍ أو فعلٍ ينمّ عن تمييز ضدّ اليهود معاداةً للساميّة (antisemitism). وقد كان نَحَتَ هذه العبارة الصحافيّ الألمانيّ فيلهلم مار (1819- 1904)، للاشارة إلى الحملات ضدّ اليهود التي كانت سائدة في غير قطرٍ أوروبيّ، لا سيّما في ألمانيا وفرنسا وروسيّا. ولم تكنْ حَمَلات ألمانيا النازيّة على اليهود الأوروبيّين منعزلةً عن هذا المناخٍ المعادي للجماعات اليهوديّة في أوروبا، والذي شهِدَ عصفًا كبيرًا مع تصاعد النزعات القوميّة في القرن التاسع عشر، وباتَ اليهود الأوروبيّون مكسرَ عصا في مرحلة إعادة رسم خريطة الامبراطوريّات الكبرى والتحوّلات في المجتمعات والسياسات الأوروبيّة، بدءًا بالثورة الفرنسيّة (1789)، وتشريعاتها التي ميّزت اليهود عن الفرنسيّين في الحقوق والمكانة، إلى الأفعال التخريبيّة ضدّ الجماعات اليهوديّة في روسيّا (pogroms)، وإرغام اليهود على النزوح إلى الغرب الروسيّ، إلى القضيّة الفرنسيّة الشهيرة المعروفة بقضيّة درايفوس، وصولاً إلى المذابح النازيّة بحقّ اليهود، والتي رافقتها مئات من التشريعات الظالمة لليهود والسالبة لكلّ حقّ لهم إنسانيّ. وإذا كان كلّ تشريعٍ يتولّد عن ضرورةٍ، فالضرورة الأوروبيّة على هذا الصعيد كانت هذه الكراهية المتأصّلة في الذاكرة الأوروبيّة عامّة إزاء اليهود، وفي الممارسات، وفي قناعتي أنّها نتيجة للمغالاة في القوميّة العنصريّة قديمًا وحديثًا، على قاعدة أنّ القوميّةَ في بعدَيها العنصريّ والعرقيّ تتضمّن كُرْهًا وعداءً لكلّ قوميّة أخرى أو دين آخر. غير أنّ الضمير الأوروبيّ الذي وَخَزَتْه جرائمُ النظام النازيّ وأعوانِه من الأوروبيّين غير الألمان، لم يتمكّن من التعامل مع معاداة اليهود (وغير اليهود من العرب والمسلمين والمهاجرين من جنوب الأرض وشرقها) بالقوانين وقوى إنفاذ القانون فقط. بل لجأ هذا الضميرُ المصابُ بعقدة الفوبيا من أخطائه وجرائمه التي ارتكبها بحقّ اليهود وغير اليهود على امتداد تاريخِه الاستعماريّ الطويل، إلى فرضِ هذه الفوبيا على مجتمعاتِه، فحوّل تجريمَ معاداة السامية إلى تهمة مطّاطة، قابلةٍ لكثير من التأويل والتفسير بأكثر المعاني ضيقًا وأشدّها اتّساعًا. وقد فَضَحَت أحداثُ غزّة هذه العُقَد المتحكّمة في الضمير الأوروبيّ (والأميركيّ أيضًا بالقياس)، على مستويات كثيرة يصعب أن نحيط بها في العمق في مقالة كهذه. غير أنّ العورةَ الكبرى التي فضحتها غزّة ودماءُ أطفالِها الصارخةُ من الأرض، أنّ رهاب معاداة الساميّة المتحكّم في العقل الأوروبيّ جعله لا يتوانى عن الخلط بين اليهوديّة كدينٍ تنتمي إليه جماعات من كلّ أمّة يحقّ لها أن تعيش بحرّية وكرامة وبكلّ الحقوق كأيّ جماعات أخرى، وبين دولةِ إسرائيل التي تمارِس بحقّ الفلسطينيّين أشنع أنواع التمييز والفصل العنصريّ والاضطهاد وسلب الأرض، وهي تمارس اليوم مذابحَ بحقّ الأبرياء والمدنيّين، لا تقلّ شناعة وبربريّة عن مذابح النازيّين بحقّ اليهود أنفسهم. فبات انتقاد دولة إسرائيل يُعتَبَر معاداة لليهود، أو كما يقول البعض، مدخلاً إلى معاداة اليهود... وهذه كذبة كبرى. أمامَ كلّ ما يحصل اليوم في غزّة والضفّة الغربيّة، أمامَ جرائم إسرائيل ومستوطنيها بحقّ شعبِ الأرض، يتلطّى الضمير الأوروبيّ خلفَ إصبعه، ظانًّا أنّه إذا لم يرَ عَلَمًا فلسطينيًّا يرفرف في شوارع باريس وألمانيا وإنكلترا، وإذا لم يخرج شابّات وشبّانٌ يعتمرون الكفّية الفلسطينيّة شاجبين بربريّة إسرائيل، تصبح تغطيتُه لجرائم إسرائيل وإبادتها للفلسطينيّين وتهجيرهم واغتصاب أرضهم، فضيلةً كبرى. فعلى المستوى السياسيّ، يُتَّهم كلّ مَن يشير إلى جرائم إسرائيل من السياسيّين ويقف موقفًا يدعو إلى وقف إطلاق النار والتفاوض، يُتّهم بمعاداة الساميّة. ويذهب آخرون، خوفًا من أن تُلقى عليهم هذه التهمة و"تشوّه سمعُتهم" ويخسروا مراكزَ لهم يتولّونها أو يحلمون بأن يتولّوها، إلى مخالفة سياسة أحزابهم وقاعدتهم الشعبيّة وتبنّي السرديّة اليهوديّة. هكذا على سبيل المثال، رئيس حزب العمال الانكليزيّ كير ستارمر الذي أدّت مواقفُه الداعمة لجرائم إسرائيل وقربُ خطابِه من خطاب حزب المحافظين الحاكم (توري) ورئيسه ريشي سوناك إلى اهتزاز حزب العمال عبر استقالات بالجملة ومواقف معترضة من كثيرين من أتباعه وهيكليّاته على امتداد المملكة. قد يقول قائل إنّ الرجلَ لا يهمّه في كلّ هذا سوى أن يتجنّب مصير سلفِه جون كوربين الذي أخرِج من المسرح السياسيّ، لأنّه كان داعمًا للقضيّة الفلسطينيّة ومتحسّسًا بعمق لآلام الفلسطينيّين، ودفع ثمن مواقفه تشويه سمعة ووصمًا بمعادالة اليهود ونشرًا لكلّ أشكال الاشاعات الخبيثة. أمّا ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطانيّ، ووزيرة داخليّته سويلا برافرمان، فموقفهما من المظاهرات المناهضة لأفعال إسرائيل في فلسطين معروفة، ومن العدوان الإسرائيليّ على غزّة تحديدًا. هذا الأسبوع، على سبيل المثال، قرّرت حكومة سوناك، أن تنصّ قوانين توسّع معنى التطرّف وتفسيره، بحيث يصبح كلّ موقف يعارض نظرة الاستابليشمانت إلى الأمور، تطرّفًا يستأهل أشدّ العقوبات. وأتى هذا ردًّا على التحرّكات الشعبيّة المطالبة بوقف العنف في غزّة. وسمّت وزيرةُ داخليّته التظاهراتِ دعمًا لفلسطين وأطفالها، سمّتها "مسيرات الكراهية"، في محاولة للتعمية على أهدافها والإيحاء بأنّ هذه المسيرات معادية لليهود. ولم يخرجْ أيّ وزير في حكومة سوناك، ليدين الكلام العنصريّ بحقّ الفلسطينيّين الصادر عن أعلى المستويات الاسرائيليّة، والكلامَ الموحي بإبادة جماعيّة، والتهديدَ بالقاء قنبلة نووية على غزّة، ومحوِ كلّ حامل للعلم الفلسطينيّ عن وجه الأرض. وليس الحال أفضل في القطر الألمانيّ حيث قرّرت الحكومة الاتّحاديّة منع كلّ مظاهرة داعمة لغزّة. واستدعى مستشارُها أولاف شولتز "تاريخنا، ومسؤوليّتنا الناجمة عن المحرقة"، في إشارة إلى النازيّة وقتلها لليهود، ليعلن أنّ المكان الوحيد الذي ستقف فيه ألمانيا هو إلى جانب إسرائيل، ما يجعل كلّ مطالبة بوقف إطلاق النار، ومساندة لآلام الشعب الفلسطينيّ ومناصرة لدماء غزّة البريئة، بمثابة معاداة للساميّة في نظر الرسميّين الألمان، في إسقاط لذنوبهِم الحقيقيّة على آخرينَ لا يحملون أيّ ذنب، سوى أنّهم يطابون بحقن الدماء البريئة. وفي مقابلة مع مجلّة دير شبيغل، عبّر شولتز عن هذا الموقف في تصريح معادٍ للمهاجرين الداعمين للقضيّة الفلسطينيّة، داعيًا إلى إيقاف الهجرة وترحيل المهاجرين متّهمًا إيّاهم بمعاداة السامية لمجرّد أنّهم يقولون "أوقفوا جرائم غزّة". وفي إحدى تصريحاتها، قالت نائب رئيس حزب الاتّحاد المسيحيّ الديموقراطيّ الحاكم (CDU)، كارين برين، في إشارة إلى مناهضي الحرب على غزّة، "يجب أن نأخذ أماكنَهم، وأن نغلق جوامعهم ومقاهيهم وأنديتهم، ونصادر أموالهم لئلاّ تذهب إلى دعم الارهاب في العالم"... بماذا يختلف هذا التصريح عمّا كان أسلافُها النازيّين يقولونه عن اليهود؟ هذه أمثلة قليلة عمّا يدور في العقول السياسيّة اليمينيّة واليساريّة في أوروبا إزاء ما يحصل في غزّة. ولمَن ينظر إليها بدقّة وإلى تبعاتها وحيثيّاتها، فإنّ هذه المواقف إنّما تنمّ عن أنّنا اليوم أمام معاداة للسامية جديدة، انتقلَ موضوعُها من اليهود الأوروبيّين إلى الفلسطينيّين، وأنّ السياسات الأوروبيّة الرسميّة التي بَنَت على انتصارها على النازية والفاشيّة، سرديّتَها بأنّها ديموقراطيّة ومسالمة ومدافعة عن الأخلاق في العالم، أصبحت منغمسة في نازيّة جديدة وهي تتفرّج على مذابح غزّة، وتشهد زورًا على كلام عنصريّ مقيت، وتبارِك أفعال المجرم وتعتبرها أفعالَ خير ونور وحضارة. لعلّ واحدنا يتساءل، لماذا هذا التشدّد العالميّ في المواقف ممّا يحصل في فلسطين والانحياز التامّ إلى إسرائيل، والاصطفاف معها، من القوى الكبرى. الجوابُ الأكثر ترجيحًا هو أنّ غزّة المنتفضةَ، إذا لم تُمحَ عن وجه الأرض، ستغيّر وجه هذا العالم بفضحها إيّاه، وسوف تساهم في خلخلة النظام العالميّ القائم حين تتبدّى للناس عوراتُه. نجحت غزّة في تحقيق خطوة كبرى في هذا الاتّجاه، وذلك في تعميق الهوّة، في بلدان العالم الأوّل، بين الناس ولا سيّما الشباب الذين يريدون التحرّر من عقد أسلافهم من جهة، والأنظمة الحاكمة التي تريد أن تبقى غارقة في هذه العقد، حتّى على حساب أرواح الأطفال... وحتّى لو استدعى الأمر إبادة الفلسطينيّين و"محو ذكرهم" عن وجه الأرض... وهذا ما لن يحصل أبدًا... لأنّ فلسطين هي ضمير العالم الحيّ الذي سوف يستيقظ يومًا ويدين كلّ قاتل ومتواطئ على وجه الأرض. "اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي" (غلاطية 6: 11 )
لوقا 16: 19 - 31 غلاطية 6: 11 - 18 بقلم نقولا أبومراد الجامعُ بين القراءتين من الانجيل والرسائل لهذا الأحدِ قوّةُ الكلمة الإلهيّة وسلطانُها. فما ينبغي باخوةِ الغنيّ أن يفعلوه لئلاّ يكونَ مآلُهم إلى الهلاك، يقرأونه في الكتاب، وما يكتبُه الرسولُ لأهل غلاطية هو القانون الذي ينبغي بهم أن يسلكوا بحسبه. وفي القراءتين أنّ الكلمة الإلهيّة المكتوبةَ تعبيرُها الأقوى والأوضح هو صليب الربّ يسوع المسيح الذي به يُصلَبُ كلُّ إنسانٍ يسلك بحسب الكلمةِ لأجل العالم، لكي يرتسمَ هذا الصليب على وجهِ العالمِ كلّه، فيحلُّ سلام الله ورحمتُه ونعمتُه على جميع الناس، وكما يقول الرسول في قراءتنا، "على إسرائيلِ اللهِ"، اي على "إسرائيلَ"، كما أراد له الله أن يكون في كتابه العزيز... لا كما صنع نفسه في تاريخه المقيت، إن كان له تاريخٌ خارجَ قصّة الكتاب. الانسانُ الغنيّ في قراءة الانجيل مَلِكٌ. لا يلبسُ الارجوانَ والبَزَّ (ضربٌ من الأقمشة المطرّزة) إلاّ الملوك. كان يتنعّم "مترفّهًا"، والأصل اليونانيّ للعبارة الثانية يفيد الجلال الملكيّ، والبهاء الالهيّ. هذا الانسانُ، صوّره لوقا على مثال رغبةِ الانسانِ الأوّل، الآدمِ، في أن يصغي إلى غواية الثعبان، "يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَالآلهة..." (تك 3: 1-5). صوّره على مثال الذين توّهموا أنّهم بنو الآلهة، فراحوا يعاملون الأدنياء، بني الناس، معاملةَ الاستعباد والاذلال (تك 6: 1-5). وَصَوَّرَ لوقا الانسانَ الغنيّ على صورة قايين الغنيّ، واسمُ قايين يعني المالكَ. ولو كان لنا مجالٌ في أن نسترسل في الكلام، لعدنا إلى أمثلة كثيرة في الكتاب الإلهيّ، على نسق الغنيّ ومعاملتِه للمسكين، في قصص داود وغيره من الملوك. غير أنّ لوقا - وهذا جدير بالملاحظة والاعتبار – لم يعطِ الغنيّ اسمًا، واكتفى بالاشارة إليه بتعبير "الانسان"، ولعلّه يريد بهذا أن يجعَلَه صورةً لكلّ إنسانٍ. أمّا المسكين – لا يدعوه إنسانًا البتّة – فيشير إليه بنعتٍ واسمٍ؛ هو مسكينٌ واسمُه ألعازر. معنى الاسم في العبريّة، "إلهي هو قوّتي وسندي". تفيد التسميات أنّ الانسانَ يستند إلى غناه في نعيمه والترف... أمّا المسكينُ فليس له إلاّ إلهُه سندًا وعونًا. وبالمقابل، يفيدُ الاسمُ أيضًا، أنّ الله هو قوّة المسكين وعونُه. كما في قصّة قايين (المالك) وهابيل (اللاشيء)، يختار الله صفّ المسكين. لماذا؟ لأنّ الانسان لجأ إلى غناه، أمّا المسكين، فلا شيء يلجأ إليه إلاّ الله... ينتظر منه الرحمةَ، والله أعطاه رحمتَه بأن جعله في نعيمٍ أبديّ في حضن ابراهيم، أي اختارَه أن يكونَ النسلَ الابراهيميّ الموعود، فيما الانسانُ الغنيّ في عذابٍ أبديّ. في هذا المثل الذي ضربَه يسوع لسامعيه، أنّ الكتابَ المقدّسَ المشارَ إليه في نصّ المثل بتعبير "موسى والأنبياء"، يعلّم أنّ المساكين الذين يلجأون إلى الله، هم نسلُ ابراهيم مهما كانوا، أمّا الذين يتّكلون على نسبهم وما لَهم لينعموا في هذه الحياةِ، فالأغلب أنّهم على صورةِ الغنيّ الذي لم يكن يسمح للمسكين حتّى أن يأكل الفتاتَ الذي يسقط من موائده. هذا كانَ، في واقع الأمور، أسوأ من الكلاب. فحتّى الكلابُ التي يعتبرُها السامعون نجسةً، كانت تهتمّ لأمر المسكين، فكانت تلحس قروحَه لعلّها تُشفى فتكون الكلابُ قد أفادته في شيء للتخفيف من مسكنته. وعلى هذا المستوى، بعد أن يكون المثلُ قد أوضحَ ما هو الخير الذي ينبغي فعلُه والشرّ الذي ينبغي الحيادُ عنه، يأخذنا إلى مقابلة بين الطاهر الذي يصنع الشرَّ والنجس الذي يصنع الخير... يأخذنا إلى مقابلة بين ما يعتبره الانسانُ طاهرًا أو نجسًا، وبين ما يحكم الله نفسُهُ في أنّه طاهر أو نجسٌ... بخلاف الانسانِ الذي أرادَ أن يصير إلهًا ليحتكر التمييز بين الخير والشرّ، يعلّمنا المثل أنّ الله هو صاحب الأمر في ما هو خير أو شرٌّ، وفي ما هو طاهرٌ أو نجس. هذا يعطيه بولس في المقطع الذي يُتلى علينا اليومَ من رسالته إلى أهل غلاطية بعدًا كتابيًّا، ويجعله قانونًا، أي شريعةً للمؤمنين بالمسيح؛ كلّ من يهتمّ للجسد، يقول الرسول العظيم، يفتخر بالجسد. أولئك هم المتربّعون على كراسي التشريع، يفتون في ما يرونَه هم مهمًّا لهم، لا في ما هو مفيد للبسطاء. "جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَرًا حَسَنًا فِي الْجَسَدِ، هؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ". هؤلاء كغنيّ لوقا، لا يعنيهم إلاّ مظهر الجسد، سواء أكان ختانًا أو أرجوانًا وبزًّا، أي مظاهر الترف والافتخار. مثلُهم لا يعنيهم صليب المسيح، ولا يريدون، في الحقيقة، أن يشهدوا لهذا الصليب حتّى الموت. أمّا بولس "فحاشا لي"، يقول، "أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح الذي به صُلِبتُ أنا للعالم وصُلِب العالمُ لي". هذا هو الكتابُ يقول بولس، وهذه هي كلمةُ الله. ما سوى ذلك فانٍ بالنار... مسكين لوقا وصليب بولس وجهان لعملة واحدة. أنتَ تُصلَب للعالم إذا كنت إلى الذين داسَهم الوحشُ الذي يحكم هذا الكون وكلُّ وحشٍ يحكم في جماعاتِ الناس. والعالمُ هو صليبُك تحملُه، إذا كنت للسلام والحقّ والعدل وعاملاً بها، إلى وجه القائم من بين الأموات. "وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ،
وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا... ونَدِمَ الربُّ..." (تك 6: 11) نقولا أبومراد كيف لا نغضبُ، لا نحزنُ، لا نُصدَم... ونحن نشاهِد، بنقلٍ حيٍّ، إبادةً جماعيّةً بحقّ شعبٍ أعزلٍ، وأطفالاً يُشلِّعُ طَراوتَهم جيشُ دولةٍ غاشمةٍ، تسكبُ عُهرَها وزناها على كلّ عابرٍ، والعابرونَ إليها ممّن يُسمّون أنفسَهم دُوَلاً متحضّرًة، حرًّة، ديموقراطيًّة، مناصرةً لحقوق الانسان، فيما هم يفسقون معها، ويُبارِكون جرائمَ حربٍ لم يشهد التاريخُ الحديثُ مثلَ وحشيّتها وبهيميّتها، وذلك باسم كِذْبَةٍ اسمُها "حقُّ دولة مارقة مغتصبة قاهرة، في الدفاع عن نفسها". يُبادُ المظلومونَ المسحوقون حتّى الجيل الرابعِ، بعدَ أن كانوا اقتُلِعوا من سُكنَاهم الآمنة، من سهولهم والتلال، من بساتين زيتونهم وتينهم وكروم عنبهم، من الصفد وبيسان وبئر السبع وحيفا والخليل ويافا الجميلة وقُدْسِ سُعُفِ النخيلِ وطبريّا وطولكرم وغيرها. هؤلاءِ مُحِقَت قراهُم ومحالُّهم محقًا، وأبيدَ كثيرُها عن بكرة أبيه، وهُجّروا، وطُرِدوا إلى بلدانٍ أخرى، عادَت هي فظلمتهم، وزُجَّ بمَن تبقّى منهم في مناطق معزولة بأسوار من الاسمنت تشبه سجونًا، لا بل هي سجونٌ كبيرةٌ صغيرةٌ، مثل غزّةَ المحاطةِ بغلافٍ حديديّ، وكأنّ القابعين فيها من غير البشر، ينتظرونَ، كلَّ يومٍ، أن يمنّ عليهم الجلّاد بشيء من الماء والطعام والوقود، وينتظرون رحمتَه لكي يجيزَ عبورَ شحناتٍ متقطّعةٍ من المساعدات ببيروقراطيّة خشبيّة... مجحفة وظالمة. تتلطّى بلدان "العالم الأوّل" خلفَ صُوَرٍ كاذبة مزيّفة. تغطّي عَورَتها بقِصص مختلقة يبتكرُها القاتلُ ليصوّر نفسَه مظلومًا، لا تلبث حتّى وسائلُها الاعلاميّة أن تعود فتكذّبها لشدّة الاحراج لما فيها من غشّ وزيف. يغضّ رؤساؤها النظر عمّا يباغتُهم من صوَرٍ لأطفالٍ يُحرَقون ويبادون، ولمستشفيات تُهدَم على رؤوس مرضاها واللاجئين إليها، ولمدنيّين يجوعون، يصرخون، يثورون أمام عدسات الكاميرات، يستجدون التفاتة من أصحاب الضمائر، فيما الدولة القاتلةُ المسمّاةُ، فِسْقًا، إسرائيل، تُمعن عهرًا وكذبًا ودجلاً، وتُغرِق أهلَها والعالمَ في مستنقع الدماء البريئة، باسم مبادئ قانون الحرب في تفسير ممطوط حتّى الانشلاع، ومشوّهٍ، للنسبيّة والضرورة العسكريّة والتمييز، واستنسابيّة عمياء يصادق عليها رؤساء الدول الكبرى. "فَسَدَت الأرضُ أمامَ الله، وامتلأت الأرضُ ظلمًا". هل فسدت الأرض قبل الطوفان الكتابيّ أكثر ممّا هي فاسدةٌ اليوم؟ هل إذا استنجد القاتلون اليومَ بقوانين حربٍ تافهة وضعها أربابُ الحروب وتركوا لأنفسِهم ومحاكمِهم الدوليّة الفاشلةِ هامشًا واسعًا لتقدير مخالفتِها ليحموا ذواتهم من تهمة الاجرام في الحرب، يصيرون أقلّ إجرامًا، أو يتزكّون؟ هل إذا أقحمَ رجالُ دينٍ فاسقونَ "اللهَ" في المعادلةِ وعبارة "الحرب الدينيّة" أو "الإلهيّة"، يصيرُ المعنِّفونَ مثالاً للطهارةِ وقدوةً في البطولة وملائكة في السماء؟ وإذا قالت إسرائيلُ إنّ قصفَ المستشفيات وقتلَ كلّ من فيه، وتدمير الكنائس والجوامع ودور المساعدات الانسانيّة، ضرورةٌ عسكريّة، تُزالُ عن ضمير المجتمع الدوليّ لوثةُ القتل والابادة الجماعيّة والعنصريّة؟ وهل إذا قرّر رئيس وزراء الدولة المارقة أنّ حربَه على الفلسطينيّين حربُ الخير على الشرّ والحضارةِ على البربريّةِ والنورِ على الظلمةِ، يصيرُ شرُّه خيرًا وبربريّتُه حضارةً والظلمةُ التي في قلبه وقلوب شركائه نورًا؟ هل إذا خرج بعضُ الربّانيّين ليوجّهوا رسالةً إلى حكومة الحرب والقتل لتطمئنَها بأنّ حربَها على غزّة بتوكيل إلهيّ، يُحرِجونَ اللهَ فيغضّ اللهُ طرفَه عن "الظلم الذي يملأ الأرض"؟ وهل إذا قرّر الصهيونيّون والخائفون منهم والمسايرون لهم من نسلِ أصحاب المحارقِ النازيّة والفاشيّة، أنّ كلّ موقف يدين العنفَ أو يسلّط الضوء على معاناة الفلسطينيّين، يُنعَت بمعاداة الساميّة ويستأهل شرَّ العقاب، يعمُّ السلامُ على الأرض؟ إنّنا أمام عالم فاسد وشرّير وظالم. وأمام محافلَ دوليّة تافهةٍ، يستعملُها الممسكون بمفاتيحها لفرضِ سرديّتهم على الناس والتلطّي خلف ورقة التين. فيشيرون إلى جرائم حربٍ إذا ما كان هذا في مصلحتهم، ويجعلون جرائم الابادة والتهجير دفاعًا عن النفس، حين تكون مصلحتُهم فيها... ويصير قتلُ خمسة آلاف طفلٍ في غزّة حربًا على الارهاب ومن ضروراتِه العسكريّة، وهو، في الحقيقة، يُشبه قتلَ هيرودسَ الأدوميّ للأطفال لعلّه ينجوَ من أن يستولي يسوع على عرشه، فلم ينجُ، بلَ التَهَمَ الدودُ جسدَه وكرسيّه وبقي المسيحُ المصلوب كلمةَ سلام وعدل للكون أجمع. أمام فساد الأرض وانتشار ظلم الناس، غدا اللهُ إلهًا مقاومًا منتقمًا، وهذه هي صورتُه إلى الأبد، إلى أن يرثَ الأرضَ وما عليها، ويرثَ المظلومون ملكوتَ السماوات. إله الكتاب ربٌّ يقاوم الصورةَ التي نختلقُها عنه... يقاومُ الأصنامَ التي نصنعها له... يقاوم كبرياءنا وتعالينا... هو إلهُ يقاوم قوانينا التي نضعها، وبنانا التي نبنيها، وأشكالَ مجتمعاتنا العرقيّة والعنصريّة والدينيّة، حتّى وإن كنّا نطلق عليها أسماءً تخصّه، فالله لا تهمّه الأسماء، فلا اسمَ له ولا اسمَ لمَن ينتمي إلى قطيعه. وإذا كان لا اسمَ له، وهو مَن هو، وإذا كان لا اسمَ لمَن ينتمي إليه، فهذا لأنّه شاءَ أن يكون فوق كلّ تمييز يصنعه البشر، وخارج كلّ صنمٍ وصورةٍ، وحرًّا من أيّ ادّعاء يأتي من هذا أو ذاك من الشعوب بأنّه إلهه الحصريّ. وإذا كان المنتمون إليه بلا اسم، فهذا لأنّهم من كلّ أمّة تحت السماء، وممّن لا تراهم أعينُ الفاسقين، ومن الذين إذا ما قُتِلوا، لا يرفّ لقاتليهم جفنٌ. وختامًا، وعلى إيقاع الاسم، أودّ أن أشير إلى حقيقةٍ في الكتاب للذين لهم أعين للنظر وآذان للسمع؛ كان لنوح بعد الطوفان ثلاثة أبناء: حامٌ، وهو أبُ الأمم المدنيّة الكبرى المحاربة، ومعنى اسمه "الغضوب"، ويفتاحُ، أبُ أمم كثيرة، ومعنى اسمه "يُفتَح له"، وسامٌ، أبُ الرعاة والذين لا أرض لهم المنتشرين على وجه الأرض، ومعنى اسمه "الاسم"... هو الذي لا اسم له... هذا هو سامُ الذي يتشدّق الغربُ بنسبة "معاداة الساميّة إليه"، ويجعلون كلّ انتقادٍ لعهر إسرائيل معاداةً للساميّة، مشوّهين معناه، فيما الحقُّ أنّ الساميّ هو كلّ مرذول تحت السماء، كلّ مقتول، وكلّ مظلوم، وكلّ مَن كان على صورة المعلّم، بلا اسم ولا وطنٍ... أمّا معادو الساميّة، فهم القاتلونَ، نسلُ حام الغضوب المحارب، الذين يقضي عليهم الطوفان... ويبقى الطريق إلى "الاسم"، إلى سعة رحمة الله، "مفتوحًا" لكلّ مَن يتوب إلى ربّه، وينظرُ إلى الوجوه الدامعةِ، ويعملُ على أن يُباد الظلم عن وجه هذه الأرض. هؤلاء هم المقاومون الحقيقيّون... "آمِن فقط، فهي تُشفى" (لو 8: 50)
نقولا أبومراد قراءةُ اليومَ من الإنجيل، في الترتيب الطقسيّ الأرثوذكسيّ، فيها قصّتان متداخلتان نَسَجَهُما معًا لوقا ببراعةٍ كبيرة: قصّةُ الصبيّة المشرفِة على الموت، ذاتِ الاثني عشر عامًا، وقصّةُ المرأة النازفة منذ اثنتي عشرة سنة. يربِط العددُ اثنا عشر بين القصّتين، ويضعهما في إطار يهوديّ (أسباط إسرائيل الاثنا عشر). يَئِيرُ، أبو الصبيّة، رئيسُ مجمعٍ يهوديّ، أي قيّمٌ على أسفار الكتاب وعلى قراءتها وترجمتها (تفسيرها) للمجتمعين للعبادة. والمرأةُ النازفةُ، كما سنرى، تحمل في ذاتِها، يهوديّة سقيمةً تسعى لتنال الشفاءَ من يسوع. حركةُ النصِّ قبلَ القصّتين تساعدُنا على فهمِ وظيفتَيهما. يسوعُ في الجليل تتبعهُ الحشودُ وهو يعلّمها ويبشّرها ويشفي ما فيها من أمراض. والحشودُ في الأناجيل، وتحديدًا عند لوقا، يمثّلون غيرَ اليهود، أي كلّ مَن كانوا مُعتَبَرين من قِبَل سكّان اليهوديّة (وعاصمتها أورشليم) غيرَ طاهرين. هؤلاءِ يعمل يسوع بينهم وفيهم. يعلّمهم كلمتَه، ويعطيهم وتلاميذَه الاثني عشرَ مثلَ الزارع عن كلام الله الذي يخرج فينمو في البعض ويموتُ في البعض الآخر. يسوع بين الحشود. يحيط به الناس من كلّ حدبٍ وصوب، من كلّ أمّة تحت السماء، يسمعون تعليمَه، ويريدون نيلَ الشفاء منه. ولكنْ، في مكانٍ ما، مجموعةٌ يسمّيها الانجيليّ "أمّ يسوع وإخوته" ما استطاعوا الوصول إليه بسبب الجمع (لو 8: 19-21). يأتي من لدنهم مَن يقول ليسوع، اترك الجمع وامضِ إلى ذويك. يرفض يسوع. يجيب "أهلي مَن يسمع كلامي". ويبقى بين الحشود. إذا قرأنا وظيفة "الأمّ والاخوة" أنْ يمثّلوا الجماعةَ التي خرجَ منها يسوع، أي "اليهود" وفي ما بعدُ "مَن قبل منهم الإيمان"، نفهم أنّ رفضَهم المجيء إليه، رغم الحشود، يعني أنّهم لا يريون الاختلاط بهم، وأنّ رفضَ يسوعَ الخروج إليهم يعني أنّه لا ينتمي حصرًا إلى بيئتهم، إلى ذهنيّتهم الاقصائيّة، بل ينتمي إلى الكون كلّه وما فيه، وأنّهم، إذا شاؤوا رؤيتَه والحضور إلى جانبه، عليهم أن ينضمّوا إلى الحشود، إلى سائر البشر، ويسمعوا كلامَه ويعملوا به. هكذا يصيرون حقًّا أهلَه وذويه. في هذا السياق تأتي القصّتان. يئيرُ، أبو الصبيّة، يريدُ أن يأتي يسوعُ إلى بيته ليشفي ابنته المريضة. ولئن كانت قصّتُه مع يسوع تشبِه قصّةَ قائد المئة الرومانيّ وخادمَه، في الاصحاح السابق، إلى حدٍّ بعيد، إلاّ أنّ ثمّة بينهما فرقًا جوهريًّا، وهو أنّ الرومانيَّ الغريبَ ما اعتبَر نفسَه أهلاً لأن يدخل يسوع إلى بيتِه، الأمر الذي رأى فيه المعلّمُ "إيمانًا عظيمًا" (لو 7: 6-9)، فيما أصرّ رئيس المجمع اليهوديّ على أن يدخل يسوع بيتَه، ما يمكننا اعتبارُه، قياسًا، علامةً على قلّة الإيمان. ولكنّ الإنجيليّ، لكي يُبرِز أنّ يسوعَ لا يأتي إلى أحدٍ إلاّ بالإيمان، أقحمَ بين بداية قصّة يئيرٍ وابنتِه (8: 40-42)، وخاتمتها (8: 49-56)، قصّةَ المرأة النازفةِ منذ اثنتي عشرة سنة وشفائها (8: 43-48). على المستوى الأدبيّ والتأليفيّ، تشكّل قصّة النازفة وسطًا أدبيًّا، أو مركزًا تأليفيًّا للنصّ، تُحيط به بدايةُ قصّة الصبيّة من جهة، ونهايتُها من الجهة الأخرى. في أدبِ الكتاب المقدّس أنّ هذه التقنيّةَ غايتُها إبرازُ الوسطِ من جهة، وتفسيرُ الطرَفين من جهة أخرى. ماذا تفعل المرأة النازفة؟ تفعل ما لم يفعلْه ذوو يسوع، وما لم يفعلْه رئيس المجمع. تقتحم الحشودَ، وتتخفّى فيهم، وتصل إلى يسوع، تلمسه، وتنال الشفاء. تأتي هي إليه، وما كان همّها أن تنأى بنفسها عمّن يعتبرهم اليهودُ غير طاهرين. لامستهم. دخلت صفوفَهم. لم تنظر إليهم إلاّ كتلاميذ للربّ. لم تسأل يسوع أن يترك الكلّ ويأتي إليها. ولم تطلب مِنه أن يأتي إلى بيتها. ركضت هي إليه رغم ضعفها. ورغمَ "عارِها"، إذا شئنا النظر إلى مرضِها من منظور ثقافة ذلك الوقت. قالت أكون من المحتشدين حولَ يسوع مهما كانوا، لعلّي أحظى بلمسة. قال لها يسوع ما قالَه للرومانيّ "إيمانك شفاك". وعلى أساسِ هذا، يجيبُ يسوعُ من أتوا يطلبون إليه أن يمضي إلى بيت رئيس المجمع، أجاب "آمن فقط، فهي [ابنتُك] تَشفى" (8: 50). ولكي يعلّم يسوعُ يَئِيرًا هذا الإيمانَ، يفعل ما فعله مع قائد المئة، ومع زكّا: يترك الحشود برهةً ويأتي إلى البيت، ويقيم الصبيّة بعد موتٍ. يأتي البيتَ لكي يزرع فيه الإيمانَ، إيمانَ قائد المئة والمرأة النازفة وزكّا العشّار الخاطئ، لعلّ مَن يعتبر نفسَه قيّما على كتاب الله وتفسيره، يستنيرُ – وهذا معنى اسمِه "يَئِير" في العبريّة، "المستنير" – يستنيرُ بالايمان بكلمة الربّ، تمامًا كما الأمم الخطاة. في خلفيّة هذا المقطع الإنجيليّ أنّ بعضًا من المسيحيّين، وغالبًا من أصل يهوديّ، رفضوا أن يكونوا في كنيسة واحدة مع غير اليهود. هؤلاء يمثّلهم في النصّ ذوو يسوع – أمّه وإخوتُه – ويئير. أمّا المرأة النازفة فتمثّل البعض الذي ترك كلّ شيء حتّى ينضمّ إلى تلاميذ يسوع الآتين من المشارق والمغارب. يُخاطبنا هذا المقطع الإنجيليّ اليومَ في العمق. كم منّا هو، بالفعل، ذاك اليهوديّ – وهذا وصف كتابيّ لمَن ظنّ نفسَه بارًّا لمجرّد انتمائه إلى جماعة معيّنة – الذي لا يريد أن يخالِط مَن يعتبرهم غيرَ طاهرين؟ كم منّا يدّعي أنّه هو أمّ يسوع ومن إخوتِه، ويتوهّم أنّه قادرٌ أن يُلزِم يسوعَ بأن يترك الجميع ويأتي إليه وحده؟ كَم منّا يظنّ أنّه هو الناطق الحصريّ باسم يسوع وأنّ الآخرين كلّهم خارجيّون؟ نحن اليومَ كمسيحيّين، تجربتُنا أنّنا نبرّر ذواتنا لمجرّد أنّ هذا منّا متديّن، أو ذاك محافظ على التقليد، أو آخر رجل دين، وما إلى ذلك. نرفضُ، في أحايين كثيرة، أن نكون جزءًا من الحشود، من "الآخرين"، وكأنّ هذا ينتقص من قيمتنا وكرامتنا. نعتبر الآخرين خطاةً، زناةً، وندّعي الطهرَ، فيما نحن، بسبب هذا تحديدًا، في الخطيئة، في العار، حتّى الغرق. يسوعُ لَن يغادرَ المحتاجين إلى كلمتِه وإلى حنانِه، لكي يتفرّغ لنا، نحن المدّعينَ أنّه لنا وحدنا، وأنّ مكانَه عندنا فقط. وما لَم نترك نحن مواقعَنا، وننزل عن كراسينا، ونتخلّى عن ذاتيّاتِنا، حتّى ولو كانت هذه الذاتيّة انتماءً إلى كنيسةٍ، ما لم نفعلْ هذا، يكونُ كلامُه فينا قد أُلقي لينمو فتحرقه الشمس أو تخنقه أشواكُ كبريائنا والضغائنُ التي فينا. ومَن ظَنَنَّا أنّهم غيرُ مستحقّين، فأولئك يكونون الأرض الصالحة التي ينمو فيها الزرع، ويثمر أضعافَ أضعافٍ. You can censor your social platforms and remove posts showing your atrocities and supporting the victims and their cause… You can ban those who do not fit within the fake “ethical rules” you have set for your “social media”, so you may be able to propagate the fantasy image of yourselves and your whims, by showing the abominable crimes you perpetrate… You can ban public meetings to discuss peace in the Middle East and prohibit demonstrations by those who do not endorse your narrative… Yet, there is one thing you cannot ban, because it is practically impossible: what the Bible says about your colonial self-divinization, your arrogance, self-importance, violence, authoritarianism and your distorted idolized moral values… You know how the Bible labels all this? Harlotry… What does a Biblical harlot do? The Biblical harlot holds a copy of the Bible, preaches God and acts according to his (not her this time for a change) own idols sculpted with his own hands.
You preach democracy, freedom, human rights, liberation, but you help perpetuate the only ghetto in the modern times that your hands have created after you claimed you have defeated the “evil” behind the ghettos of World War II, while in fact, you wore it like a garment… You did not only perpetuate the ghetto, but you are endorsing the annihilation of those living in it… in the name of Zion and chosenness, and here lies the utmost harlotry: in the Bible, Zion is the city of God where all nations gather together, abolishing all linguistic, geographic, racial and religious boundaries together with all the creation, to praise the bounty of God. Yet, your Zion is an image of your self-divinization, an exclusive, racist, colonial project stained with the blood of the innocent… Yet, whatever boundaries you impose, and high walls you build, whatever homes you destroy and families you erase from the face of the ground, you will remain what you really are: “dust from dust intended to be scattered by the winds on the face of the earth… No more than what you were in your mothers’ wombs”, as a dear friend once wrote… Finally, there is one Biblical teaching I would like to put forward so you and your like would consider: You are NOT God’s favorite creature… you are just a mammal among many others… you are rather much like the “Nephilim” who believe they are a rare mixture of divinity and humanity, whereas you are rather “fallen”, precisely as the word implies. God’s favorite creatures are the fish, yes the fish! These creatures that the flood, obviously, did not destroy. You know why? Because the fish live in a world in which human beings cannot erect boundaries… a world that is itself a boundary for human beings… God prefers the fish because they live, despite their diversity, in the same world, without boundaries. In the Bible, which you claim to know and defend, God’s called are likened to fish, their calling to fishing… and the apostles to fishermen… these are the flock of God… these are those trampled down by your adulterous behavior, from all the nations of the earth, and… one day, those will inherit the earth when you will be swallowed to the depth of nothingness… scattered back to where you and your erected structures belong: to dust… "Every scribe who has been trained for the kingdom of heaven is like a master of a house, who brings out of his treasure what is new and what is old." (Matthew 13:52)
Nicolas Abou Mrad Wounded and desolate due to the impact of Israeli atrocities, the last thing Palestine needed were some of the Old Testament scholars who would bring forth statements condemning the aggression against “Israel and the Jews”. These statements are deeply rooted in a fallacy that some European archaeologists propagated in the early nineteenth century in the context of archaeological excavations in Palestine, seeking to verify the authenticity and factuality of events narrated in the Old Testament. Contemporary historians of the same era followed their lead, using the text of the Old Testament to reconstruct what they claimed was the history of ancient Israel. The fallacy, in its various versions and divergent paths, asserts that the state of Israel, established in 1948 on the usurped land of Palestine, is a continuation of ancient Israel spoken of in the Bible. It claims that the promise of the land given to Abraham remains in effect for those alleged to be "children of Abraham" in the flesh, in a twisted understanding of the texts and a distortion of their contexts. What is even more astonishing is that these assertions have come from Western Christian scholars who are supposed to have read in both the Old and New Testaments that the promise of the land has a salvific dimension, and that the Promised Land’s significance transcends its materiality. In Scriptures, it is portrayed as an image of the entire earth where people live in harmony and peace, despite their differences and diverse backgrounds. For this reason, the Land is not explicitly mentioned by name in the New Testament, where the writers speak of the Kingdom of God / of Heaven. This Kingdom is the word of God present and active in people, for them to be on this part of the earth, and everywhere, reflecting the inherent goodness that was established by God from the very beginning and shall persist, in hope, until the culmination of all things. The atrocities committed against innocent Jews by the Nazis and fascists during the Second World War represented, undoubtedly, a dark chapter in modern European history. Yet, in efforts to reconcile this dark past, biblical scholars, particularly some of those specializing in Old Testament studies, adopted a narrative approach that blurred the line between meticulous interpretive research and solid hermeneutics on one hand, and an ideological interpretation of history aimed at justifying personal historical struggles. Rather than merely responding to these atrocities with repentance, compassion for others, and a commitment to upholding diversity and the right to freedom and dignified living for every human being, drawing on the principles of the Holy Scriptures and the universal message of compassion embodied by Jesus' Cross, they concocted an interpretive ideology that classified Jews as a people of God and Christians as another people of God, with differing biblical standards and two separate justified paths. This perspective gained traction particularly in the American context in what is known as Christian Zionism. Its adherents argue for Israel's divine entitlement to Palestine, justifying its actions against the Palestinians as not only permissible but necessary under this perceived divine right and on the basis of Biblical texts! The danger of these claims is that they have found their way into US public policy towards Israel and the Middle East. This distorted reading has led these individuals to believe that this particular “Jewish” interpretation of Scriptures, no matter what, is not only justified and correct, but the only interpretation. The only acceptable Christian interpretation would then be the one that adopts their ideological construal. Anything else is accused of anti-Semitism, even if it came from non-Zionist or anti-Zionist Jewish scholars. In this context, the International Organization for Old Testament Studies (IOSOT) was established after World War II "to promote international and multi-denominational studies and research of the Old Testament." In principle, the establishment of this organization is undoubtedly noble. The encounter with those whom the Nazis attempted their annihilation, in order to study with them the meanings of the scripture, and to come together on common ground to study the word of God, is a matter of great righteousness. Inviting your community, despite having been consumed by the shadows of brutal nationalism and racial supremacy, to embrace diversity and accept the others as partners in life, with equal rights to existence, dignity, and freedom, regardless of cultural and ethnic differences, represents a divine mandate within Scriptures. However, issuing a statement on behalf of this organization, condemning the "terrorist attack on Jews and Israel," while cautioning "the Jews and biblical scholars" of the spread of anti-Semitism in the Middle East, and reassuring them that the International Organization for Old Testament Studies is their safe haven, as if the Middle East and its peoples are searching for them in every corner to throw them into prisons, is, in my opinion, a major falsehood. This action seems to stem from your historical perspective, guilt complexes, and the tragedies caused by your forebears, projected onto a matter that is disconnected from your own context and ideology. It appears that you have embraced this stance due to these particular contexts and ideologies, and now seek to impose it on others. The fact that this organization is primarily concerned with the events in Palestine, issuing this statement, while it has never condemned any injustices elsewhere in the world, raises suspicion. The most annoying thing in the statement lies in mentioning the killing of Jews in Israel while disregarding the killing of Palestinians at the hands of the Israeli army, or worse, justifying such acts. Additionally, when asserting that it was Hamas that brought “this suffering upon Israel and the civilian population in Gaza and the region as a whole”, you inadvertently ignore a crucial principle of the divine book, often referenced as the "Golden Rule," which advocates "Love your neighbor as yourself." This tenet holds utmost significance within scripture, prompting reflection on whether one's definition of 'neighbor' is exclusive to the Jewish community, oblivious to the lessons of empathy conveyed through the parable of the compassionate Samaritan by the Lord. When you claim that Hamas has caused misfortunes for both Israel and the people of Gaza and the surrounding region, you are essentially endorsing the Israeli's indiscriminate bombing of Gaza, the tragic killing of thousands of children, mothers, and innocent individuals, the obliteration of hospitals, and the bombing of mosques and churches that provided refuge to desperate civilians. Your God says, “You shall not kill”. But then again, such a stance implies that you perceive your God's directive against killing as not applicable to "Israel." By taking this position, you reveal yourself more as a political amateur, in line with the powers that endorse the brutal acts committed against Gaza, than an impartial scholar, interpreter, or herald of the divine Word. My fellow IOSOT scholars, the ongoing tragedies in the Middle East, and the suffering of the Palestinian people, are rooted in the ramifications of the policies of ruthless colonization policies, the ambitions of Zionism, and the occupation of Palestinian land and parts of Lebanon and Syria. This has resulted in the slaughter of civilians, their displacement, in hunger, and confinement in small and large prisons. Moreover, policies of discrimination, racial segregation, blunt apartheid, and fascist nationalism that Europe bequeathed to its offspring, Israel, were inflicted on them. The root cause of these tragic circumstances lies in Israel's persistent evasion of international justice, in its impunity, in blatant violation of fundamental principles of democratic governance and international laws. The actions of the dominant powers - referred to in Scriptures as "adulterous"! - continue to endorse the aggressive actions of the state, which you, in your recent statement, describe as democratic; while its whole narrative is based on lies and lies and lies (read Jeremiah 7)… and you want to believe those lies. Your understanding of the Middle East appears limited. The convolution of its contexts must be beyond your ability to visualize it apart from your narrow understanding of Scriptures. It is not the Holocaust, my dear ones, but rather the broader impact of policies aimed at safeguarding Israel. These policies, often serving the interests of major powers and their regional ambitions, have resulted in the imposition of totalitarian and oppressive regimes in the Arab world, suppression of freedoms, and a multitude of burdens for the affected populations including displacement, killing, destruction, emigration, spread of ignorance, the darkness of extremism and its consequences. Those afflictions, which no other people have suffered in the name of false democracy, have been perpetuated with the assistance of proponents of misguided ideologies. Notably, the statement issued by the IOSOT has received strong support from some Israeli archaeologists working on the Tel Safi archaeological project, for example, the so-called "Minerva Center for the Relations between Israel and Aram in Biblical Times." Meanwhile, criticism and “shame” imbued with hatred were directed towards the two statements issued by the World Archaeological Council (WAC) and by the Society of Biblical Literature (SBL) on the same day. Both balanced statements condemned the violence occurring in Palestine against civilians, the disproportionate Israeli retaliation, the killing of civilians, and the destruction of Palestinian heritage. The statement of the Society of Biblical Literature held Israel responsible for the violence and the killing of innocents, crossing all red lines. Furthermore, the organization pledged to take measures to call against the misuse of Scriptures to rationalize any atrocious acts or assaults on Palestinian residents, debunking any baseless allegations. Apparently, these two statements have stirred the fervor of Zionist extremists in Israel, who criticized and accused the prominent professional and prudent associations of losing their moral compass and failing to understand the "Nazi-like behavior of Hamas", urging the scientific community to cut ties with them. The statement of the IOSOT came immediately after these two statements. It seemingly aimed to advance the Israeli narrative about the unfolding events in Palestine, invoking the Nazi massacres and Israel's right to the land. This claim rests on a distorted interpretation of the Holy Scripture and other unsubstantiated allegations, except in the minds of individuals grappling with the weight of history and guilt, and boundless narcissism, with which they defend the genocide of Palestinians, the trampling down of the most valuable Scriptural values, i.e. peace justice and righteousness, at the hand of the most belligerent, oppressive and immoral state in the world, which, on top of everything, possesses one of the biggest arsenals and deadly weapons; where is the “eternal peace” called for in Scriptures? Still, this state is supported by architects of unspeakable horror in the name of democary, and by the upholders of sadistic cruelty in the name of “rights”!!! To those people, we want to emphasize that we recognize the difference between Jews and Israel even if you wish to refer to Israel as Jewish, in violation of all modern principles of freedom and democracy. Judaism is a noble religion, great in heritage, with which we share the same divine Scripture, with devout adherents spanning across the globe. As for Israel, it is a state like any other in this world; it fights, kills, has geopolitical ambitions and interests, occupies, oppresses, and violates international laws. If Hamas has committed crimes in killing Israeli civilians - and there is no doubt that it has - Israel has also committed crimes, by killing Palestinian civilians, "seventy-seven-fold", reminiscent of the biblical reference of Lemech, son of Cain - You know his story, don't you? Every individual who takes the life of another is a criminal, spilling blood on the Adamah, whether he is Jewish, Christian, Muslim, Buddhist, of any other faith or of no faith at all. Likewise, every innocent life lost at the hands of such criminals becomes one of God's people, irrespective of their faith or lack thereof. The identity of the people of God is not for anyone to decide… Only God knows who is with Him and who is against Him... At the end, I wish for the veil to lift from your sight and the fog to clear from your vision, enabling you to discover in the Scripture the elements that serve the interests of all humanity in their pursuit of peace, justice, and truth. "كلّ كاتب متعلّم في ملكوت السماوات، يُخرِجُ من كنزه جُدُداً وعتقاء" (متّى 13: 52).
نقولا أبومراد لم يكن ينقصُ فلسطينَ المجرّحةَ والثكلى على وقع الإجرام الاسرائيليّ، إلاّ بعضٌ من علماء الكتاب المقدّس يخرجون ببيانات تدينُ الاعتداءَ على "إسرائيل واليهود" متجذّرةٍ في خُرَافَةٍ نَثَرَ بذورَها بعضُ الآثاريّين الأوروبيّين في بداية القرن التاسع عشر، ممّن عملوا في فلسطين بحثًا عمّا توهّموا أنّه يساعد على التحقّق من واقعيّة أحداثٍ مرويّة في العهد القديم. وقد جاراهم في نثرها، مؤرّخون من القرن عينه، استعانوا بنصّ العهد القديم ليعيدوا بناءَ ما زعموا أنّه تاريخُ إسرائيل القديم... والخُرافةُ، وإن تعددّت نُسَخُها، وتنوّعت مساراتُها، قِوامُها أنّ دولةَ إسرائيل التي نشأت العام 1948 على أرضٍ مُغَتَصَبةٍ، هي استمرار لاسرائيل القديمة التي يتحدّث عنها الكتابُ المقدّس، وأنّ الوعدَ بالأرضِ، المُعطى لابراهيم، وعدٌ ما زال ساري المفعول على مَن يُزعَم أنّهم "أبناء إبراهيم"، بالجسد، في فهم مشوّه للنصوص وكَسْرٍ لسياقاتها. والأمر الأشدّ غرابة في هذا، أنّ هذه المقولات أتت من علماء مسيحيين في الغرب، يُفتَرَض أنّهم قرأوا في العهدين القديم والجديد أنّ الوعدَ بالأرض ذو بُعدٍ خلاصيّ، وأنّ الأرضَ الموعودةَ بمعناها أهمّ منها بمادّيّتها، وذلك لأنّها، في الكتاب، صورةٌ للأرض كلّها، يعيش فيها الناس بوئامٍ وسلام ولو اختلفوا وتنوّعت مشاربُهم. ولهذا، لم تُذكَر في العهد الجديد بالاسم، بل تحدّث الكُتَّابُ عن ملكوت الله، أي عن كلمةِ الله حاضرةً وفاعلةً في الناس ليكونوا على هذه الأرض، وفي كلّ مكان، عاملين بمقتضى الحُسنِ الذي أنشأه الله وكان بدءَ كلّ شيء وسيكون، على الرجاء، خاتمتَه. وأتت المجازرُ النازيّة والفاشيّة بحقّ اليهودِ الأبرياء في سياق الحرب العالميّة الثانية وصمةَ عارٍ على التاريخ الأوروبيّ. ولنزعِ هذه الوصمة، عَمَدَ علماء كتابيّون، لا سيّما منهم مَن تخصّص في دراسات العهد القديم، إلى بلورةٍ سرديّة تفسيريّة تخلِط ما بينَ دقّة البحث التفسيريّ من جهة، وإيديولوجيا موجِّهة للتفسير أساسُها في تبرير الذات من عُقَد التاريخِ. فبدلَ أن تردّ هذه الحلقاتُ على المجازر بحقّ اليهود من منطلق التوبة فقط، ومحبّة الآخر والتنوّع وحقّ الناس في الحرّية والعيش الكريم، مستقيةً قِيَم الكتاب المقدّس وانبساط صليب يسوع على أصقاع الدنيا، ابتدعت إيديولوجيا تفسيريّة لتصنّف اليهود شعبًا لله، والمسيحيّين شعبًا آخر لله، في طريقَين منفصلين ومبرَّرين كتابيًّا ووفق معايير متباعدة. وذهب مذهبٌ منها إلى القولِ إنّ اليهود هم شعبُ الله الوحيد، وإنّ المسيحيّين، حين يكتشفون اليهوديّة ويرون جذورَهم فيها، يبلغون دعوتهَم. وتنامَت هذه النزعةُ في القطر الأميركيّ في ما يُسمّى المسيحيّة الصهيونيّة، التي يقول أتباعُها بحقّ إسرائيل الإلهيّ في فلسطين، وبأنّ عدوانَها على الفلسطينيّين مبرّرٌ لا بل مطلوبٌ بموجب هذا الحقّ الإلهيّ! وخطرُ هذه الادّعاءات أنّها وجدَت طريقَها إلى السياسة العامّة الأميركيّة تجاه الكيان الصهيونيّ. ونتجت عن هذه القراءة المؤدلجة قناعةٌ عند هؤلاء بأنّ التفسير اليهوديّ للكتاب، مهما كان، مبرّرٌ، لا بل هو التفسير الصحيح، وأنّ التفسيرَ المسيحيَّ الوحيد الممكن قبولُه، هو ذاك الذي يتبنّى إيديولجيّتهم التفسيريّة، وما سوى ذلك يتّهمونَه بمعاداة السامية (antisemitism)، وهي العبارة التي اتّفق الغربُ الذي قَتَل اليهودَ في تاريخه القريب والأبعد، أن يُطلقَه على الموقِف المعادي لليهود كجماعة دينيّة بعدَ الحرب العالميّة الثانية. حتّى إنّ هؤلاء رفضوا المذاهب اليهوديّة غير الصهيونيّة أو المعادية للصهيونيّة. في هذا السياق، تمّ تأسيس ما يُسمّى المنظّمة العالميّة لدراسات العهد القديم (IOSOT) بُعَيد الحرب العالميّة الثانية "لتعزيز الدراسات والأبحاث الدوليّة والمتعدّدة المذاهب" (المقصود يهوديّة ومسيحيّة) للعهد القديم. بالمبدأ، إنّ تأسيسَ هذه المنظّمة فيه نُبْلُ كبير، بلا شكّ. فأن تلتقيَ، في مكان واحد، مع مَن حَاوَلَتِ النازيّةُ إبادتَهم، للبحث معهم في معاني الكتاب، والالتقاء على كلمة سواء، وتدارس كلمة الله، أمورٌ هي غايةٌ في الاستقامة. وأن تدعوَ مجتمعاتِك، بعدما لفّها ظلامُ القوميّة والاستعلاء العرقيّ، إلى التنوّع وقبول الآخر شريكًا في الحياة والوجود والكرامة والحرّية، مَهما اختلفتَ معه وتباعدتَ ثقافيًّا وإثنيًّا، هو، بالحقيقة، دعوةُ الله لك في الكتاب. لكنْ، أن تخرُج ببيان بإسم هذه المنظّمة، لتدين "الاعتداء الارهابيّ على اليهود وإسرائيل"، وأن تحذّر "اليهودَ وعلماءَ الكتاب المقدّس" من انتشار معاداة الساميّة في الشرق الأوسط، وتُطمئن علماء الكتاب المقدّس اليهود بأنّ المنظّمة الدوليّة لدراسات العهد القديم هي الملاذ الأمين لهم، وكأنّ الشرقَ الأوسطَ وأهلَه يبحثون عنهم في كلّ زاويةٍ للزجّ بهم في المعتقلات، فهذا، لعمري، زورٌ كبير، وفيه إسقاطٌ واضحٌ لتاريخِك أنت، وعُقَد ذنبِك، والمآسي التي صَنَعها أسلافُك، على قضيّة بعيدة كلّ البعد من سياقك وإيديولوجيّتك وبنيتك الفكريّة التي انتهجتَها بسبب هذين السياق والإيديولوجيا، وتريد أن تفرضَها على سواك. وأن ترى هذه المنظّمةُ نفسها معنيّة، أساسًا، بما يحصل في فلسطين تحديدًا، فتصدرُ هذا البيان، ولم نسمعها قط من قبل تدين أيّ اعتداء على أيّ ظلم يحصل في مكان آخر في هذا العالم، لأمر يدعو إلى الريبة. والأخطرُ من هذا أنّك، حين تتحدّث عن قتل اليهود في إسرائيل وتسكتُ عن قتل الفلسطينّين على يد أهلِ إسرائيل، أو تبرّرُ قتلَهم، حين تقول في بيانك إنّ "حماس جلبت هذه المعاناة على إسرائيل والسكّان المدنيّين في غزّة والمنطقة بأسرها"، فإنّك تغضّ طرفَك عن أهمّ ما في الكتاب الإلهيّ، وما تسمّيه، في أدبيّاتك، "القاعدةَ الذهبيّةَ"، أي "أحبِب قريبَك كنفسك"، عارفًا أنّ هذه الوصيّة هي أهمّ ما في الناموس، إلاّ إذا كنت تظنّ أنّ القريبَ هو اليهوديّ فقط، فتكون وكأنّك لم تسمع مثل السامريّ الشفوق من فم المعلّم. حين تقول إنّ "حماس" جلبت المآسي على إسرائيل وأهل غزّة والمنطقة، فأنت تقول أيضًا، ضمنًا وصراحةً، إنّ القصفَ الإسرائيليّ العشوائيّ على غزّة وقتلَ آلاف الأطفال والأمّهات والأبرياء وتدمير المستشفى على رأس خمسمئة إنسانٍ، وقصفَ الكنيسة على اللاجئين إلى كنفِها بحثًا عن السلامة، هو مبرَّرٌ، وربُّك هو القائل لا تقتل. وكأنّ العنفَ عندَك ممنوع إلاّ على "إسرائيل". أنت، في هذا، سياسيّ هاوٍ ولستَ، كما ينبغي لك أن تكون، دارسًا للكتاب أو مفسّرًا له أو ناشرًا لكلمة الله. إنّ المآسي في الشرق الأوسط، يا زملائيّ دارسي الكتاب المقدّس المنضوين في المنظّمة العالميّة لدراسات العهد القديم، وآلامَ الشعب الفلسطينيّ، سبّبتها سياسات الاستعمار الرعناء، وأطماع الصهيونيّة، واغتصابها لأرض فلسطين، وأجزاء من لبنان وسوريا، وذبح أهلها وتهجيرهم وتجويعهم وزجّهم في سجون صغيرة وسجون كبيرة، وسياسات التمييز والفصل العنصريّ والقوميّة الفاشيّة التي أورثتْها أوروبا إلى ربيبتها إسرائيل. سبب المآسي، استثناء إسرائيل من العدالة الدوليّة، في مخالفة لكلّ الأسس الحديثة للدولة الديموقراطيّة، وتبرير الدول الكبرى – أي تلك التي يُشير إليها الكتاب الذي تدّعون دراستَه بالزانية – لكلّ ما تقوم به الدولةُ الغاشمة التي تسمّونها، في بيانكم، ديموقراطيّة. قضيّة الشرق الأوسط تجهلونَها على ما يبدو. هي ليست محرقةَ اليهود، يا أعزّائي. إنّها مآساة الشعوب التي فَرَضَت عليها سياساتُ حماية إسرائيل - ومن خلالها حماية مصالح الدول الكبرى وأطماعها في المنطقة - الأنظمةَ التوتاليتاريّةَ المستبدّة وسحق حرّياتها. وجلبت عليها أثقال التهجير والقتل والدمار والهجرة والتجهيل وظلاميّة التطرّف وآثارَه وما إليها ممّن لم يحمله شعب آخر من ظلم باسم الديموقراطيّة الزائفة، وبمساعدةٍ من أصحاب الأفكار المزوّرة. إنّ هذا البيان الصادر عن المنظّمة الدوليّة لدراسات العهد القديم، لاقى ترحيبًا قويًّا من بعض علماء الآثار الاسرائيليّين العاملين في مشروع تلّ الصافي الأثري مثلاً، وما يُسمّى "مركز مينرفا للعلاقات بين إسرائيل وآرام في الأزمنة الكتابيّة"، فيما عيَّب هؤلاء بيانَين آخرين كانا قد صدرا عن المجلس العالمي للآثار (World Archaeological Council)، في 20 تشرين الأوّل 2023، وعن جمعيّة الأدب الكتابيّ (Society of Biblical Literature)، في اليوم نفسه. هذان البيانان المتّزنان يدينان العنف الحاصل في فلسطين بحقّ المواطنين والردّ الإسرائيليّ غير المتناسب، وقتل إسرائيل للمدنيّين وتدمير الإرث الفلسطينيّ. ومن جهته، حمّل بيان جمعيّة الأدب الكتابيّ، إسرائيل، مسؤوليّة العنف وقتل الأبرياء وتجاوز كلّ الخطوط الحمر، وأضاف إنّ إدارة الجمعيّة ستعمل على ألاّ تُستخدم نصوص الكتاب المقدّس لتبرير أيّ من الأفعال المشينة والاعتداءات على السكّان الفلسطينيّين والادّعاءات الزائفة. وعلى ما يبدو، فإنّ هذين البيانين أثارا حفيظة غلاة الصهيونيّة في إسرائيل، فعيّبوه، واتّهموا الجمعيّتين المعروفتين بالمهنيّة والحصافة، بأنّهما فقدتا البوصلة الأخلاقيّة ولم تفهما "التصرّف النازيّ لحماس"، ودعوا المجتمع العلميّ إلى قطع العلاقة بهما. وبيان المنظّمة العالميّة لدراسات العهد القديم، أتى في اليوم التالي (21 تشرين الأوّل)، لكي يقدّم، على الأرجح، السرديّة الاسرائيليّة حولَ المستجدّات في فلسطين، والتي تستجدي المجازر النازيّة وحقّ إسرائيل في الأرض بموجب فهم مشوّه للكتاب المقدّس، وما إلى ذلك من ادّعاءات لا أساس لها إلاّ في مخيّلة أشخاص يعانون عُقَد التاريخ والذنب، ونرجسيّة لا حدود لها. لهؤلاء نقول، نحن نعرف التمييز بين اليهود وإسرائيل، ولئن شئتم أنتم أن تسمّوا إسرائيل يهوديّة، في مخالفة لكلّ الأسس الحديثة للحرّية والديموقراطيّة. اليهوديّة ديانةٌ جليلة، عظيمة الارث، نشترك معها في الكتاب الإلهيّ نفسِه، وأهلُها الأتقياء في كلّ أمّة تحت السماء. أمّا إسرائيل فدولة كسائر دول هذا العالم، تحارب وتقتل ولها أطماع، وتحتلّ، وتظلم، وتخالف القوانين الدوليّة... وإذا كانت "حماس" قتلت إسرائيليّين، فإسرائيل أجرمَت في القتل، "سبعةَ أضعافٍ في سبعين" كمثل لامك ابن قايين – تعرفون قصّتَه، أليس كذلك؟ - في قتل المدنيّين الفلسطينيّين. كلُّ قاتلٍ، مجرمٌ يملأ الأرض دماءً، أكان يهوديًّا أم مسيحيًّا أم مسلمًا أم بوذيًّا أم بلاد دين... وكلّ دمٍ زكيٍّ مهراقٍ لانسانٍ يقتلُه مجرمٌ هو عضوٌ في شعب الله، أكان يهوديًّا أم مسيحيًّا أم مسلمًا أم بوذيًّا أم بلا دين... شعبُ الله ليس أنتم الذين تقولون مَن هو، ولا أنا، ولا أيّ أحد... وحده الله يعرِف مَن معه ومن عليه... في النهايةِ آمَل أن يُرفَع البرقع عن وجوهِكم والغشاوة عن عيونكم، ليتكم تجدون في الكتابِ ما ينفعُ أهل الأرض كلّهم في سعيهم إلى السلام والعدل والحقّ. |
الكاتبنقولا أبومراد أرشيف
December 2023
تصنيفات |