أسعد قطّان
لقد فشلت الدولة الغاصبة في سحق حركة «حماس». مصادر غير رسميّة في إسرائيل تحدّثت عن نحو عشرين ألف إصابة في صفوف جيش «الدفاع» الإسرائيليّ حتّى الآن، كلّ هذا بقطع النظر عن الأعطاب السيكولوجيّة التي ربّما يستحيل ترميمها. أمّا الحركة، فما زالت تقاتل في غزّة وتتصيّد الغزاة كالعصافير، ولا شيء يشي بتصدَع بنيتها. قتل المدنيّين بالآلاف وتدمير غزّة وجباليا وخان يونس على رؤوس أهلها لا يخفّف من طعم هزيمة صفّ العسكر، الذي كسرت غزّة أسطورته على الرغم من تفوّقه التكنولوجيّ واتّكائه على أساطيل العالم. هذه الهزيمة ستغيّر إسرائيل وتقلب الأشياء فيها رأساً على عقب. اليوم، لا يستطيع أحد التكهّن باحتمالات هذا التحوّل ومساراته وكيفيّة انعكاسه على إيديولوجيا الدولة اليهوديّة، وعلى مصائر ما بات يدعى «الهجرة المعاكسة». لكنّ التبدّل آتٍ لا محالة على الرغم من التباس معالمه. لكنّ صمود حركة «حماس» في غزّة لا يستتبع أنّ في مقدورها أن تكون مرتاحة. إذا كان الإسرائيليّ لا يمتلك جواباً عن ماهيّة اليوم الذي يتلو الحرب، فإنّ حركة «حماس» لا تمتلكه أيضاً. وبالنظر إلى عمليّة الترانسفير التي تحاول إسرائيل فرضها بالقوّة على أصحاب الأرض، لا مناص من أن تطرح «حماس» السؤال عن معنى موت آلاف الفلسطينيّين ثمناً لعمليّة قرّرت القيام بها في الداخل الإسرائيليّ. بكلمات أخرى: ما هو جوهر العلاقة بين حركة مقاومة تستلهم الإيديولوجيا الدينيّة وآلاف المدنيّين الذين يدفعون باللحم الحيّ ضريبة وقوعهم بين مطرقة الاحتلال وسندان المقاومة؟ هل تنجح حركة «حماس» في إحداث الانزياح الذي يحوّل المشروع الإسلامويّ إلى مشروع وطنيّ؟ وماذا عن علاقتها بدولة الثورة الإسلاميّة في إيران، التي تسلّح وتموّل وتجيّش. وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ إسرائيل ستفشل في طرد الفلسطينيّين من قطاع غزّة، من سيعيد إعمار هذا القطاع؟ وكيف ستتموضع حركة «حماس» بين دول الخليج الغنيّة، التي وحدها تمتلك مفاتيح إعادة الإعمار ولا تؤمن بالحلّ العنفيّ للقضيّة الفلسطينيّة، وإيران التي تزرع في حقول الآخرين كي تحصد في حقلها؟ هذه الأفكار تأخذنا بطبيعة الحال إلى نظام الملالي. خبرة الأشهر الثلاثة الماضية تثبت أنّ هذا النظام يكذب حين يعلن أنّه مهتمّ باستعادة القدس. منذ سنين وهو يطبل آذاننا بتحرير الجليل وفتح القدس. وحين بلغت إسرائيل أقصى درجات ضعفها، خرج مَن يقول لنا إنّ الحرب معها لا تُربح بالضربة القاضية، بل بالنقاط. الأساطيل المنشورة في المتوسّط والخليج العربيّ لم تُرعب نظام الملالي فحسب، بل فضحت رياءه أيضاً وقدرته على التلوّن والانكفاء فيما هو يُطلق التهديدات الجوفاء. هذا النظام يبدو اليوم غير عابئ بعشرات الآلاف من القتلى والجرحى في فلسطين وما تحوكه إسرائيل من خطط التهجير، مكتفياً بالتفرّج كي يحافظ على رأسه ويحجز له مقعداً مرموقاً على طاولة رسم الشرق الأوسط «الجديد». لكنّ الطامة الكبرى ليست في كذبه، بل في الذين ما زالوا يصدّقون هذا الكذب أو هم غافلون عنه. أخيراً، ماذا عن الغرب؟ من حيث هو بنية سياسيّة، فشل الغرب في امتحانه الأخلاقيّ على أبواب غزّة. هذا الفشل ليس الأوّل من نوعه. لكنّه ربّما يكون الأكثر فداحةً في القرن الراهن. الأكيد أنّ الغرب ما فتئ يراكم الفشل الأخلاقيّ تلو الفشل على مدى الخريطة الممتدّة بين كاراباخ وغزّة مروراً بأبخازيا وحلب وحمص وأمكنة أخرى لا نسمع عنها كثيراً في نشرات الأخبار. تقابل هذا السقوط الأخلاقيّ المريع إنجازات وسائل التواصل الاجتماعيّ الغربيّة المنشأ، والتي بدّلت عالمنا بحيث عاد من غير السهل أن تستعاد نكبات الماضي. والحقّ أنّ هذه الوسائل لا تصنع الثورات فحسب، بل تضطلع بدور مفصليّ في صنع التضامن الإنسانيّ أيضاً، الذي ينشأ بالدرجة الأولى عبر العين، أي عبر رؤية أطفال فلسطين يموتون فيما بيوتهم تتداعى فوق رؤوسهم الصغيرة. بفعل الدعم غير المشروط للحرب الإسرائيليّة على فلسطين، يُمعن معظم ساسة الغرب في غبائهم، ولا سيّما في اعتقادهم أنّ بلادهم تستطيع أن تُقفل على ذاتها، وتتنصّل من مسؤوليّتها الأخلاقيّة، وتنجو من «البرابرة الجدد»، من طوفان المقهورين الذين يتشوّفون إلى العدل الساقط على مداخل غزّة والقدس ونابلس. الحرب الدائرة في فلسطين اليوم تختزن في ذاتها طاقة استيلاد حروب جديدة وأشكال جديدة من العنف هي ضرب من حرب معاكسة على جبابرة الأرض، وذلك إذا لم تتحقّق العدالة في فلسطين، التي صارت، كما كتب أحدهم، «ضمير» العالم و«بوصلته» الأخلاقيّة. عنوان هذه المرحلة الجديدة ربّما لن يكون الحرب على الإرهاب، بل الحرب على مصالح الغرب ومدنه الغنيّة بعدما قرّر نواطيرها أن يناموا عن الثعالب. لعلّ الخراب لن يبقى مقتصراً على قطاع غزّة. وإنّ غداً لناظره قريب. أسعد قطّان
مسح يامِن الغبار عن عينيه، وراح يجول بناظريه بحثاً عن شيء كمن يبحث عن الحلم عند اليقظة. رأى الركام يحيط به. ورأى الغبار يلتصق بالركام ثمّ ينفصل عنه ويتصاعد منه. شغلته حركة الغبار عن أيّ فكرة أخرى. كان كمن يكتشف حقيقة الغبار من جديد، أو لعلّه لم يفهم هذه الحقيقة إلّا اليوم. فالغبار ليس مجرّد تعبير عن غياب البشر وانعدام النظافة. إنّه الوجه الآخر للركام. والركام الذي يراه الآن بأمّ العين كان الوجه الآخر للموت. فجأة تذكّر. تذكّر الذين كانوا معه. وتذكّر المهمّة التي جاؤوا من أجلها. تلمّس كيس القماش. فوجده يتدلّى من كتفه كما كان يتدلّى قبل أن يحلّ الركام ويحجب الغبار كلّ شيء. دسّ كفّه في الكيس متلمّساً الأشياء التي فيه: بعض قشور الليمون المجفّف، غصون صغيرة من الزيتون أُلصق بعضها على بعض كي تقلّد شكلاً كهيئة الطير، علبة خشبيّة صغيرة فيها صعتر ممزوج بالسمّاق. أين هم يا ترى؟ هل ابتلعتهم متاهة الغبار؟ وماذا عن المكان الذي كانوا قد قرّروا أن يقصدوه معاً حاملين إليه أشياءهم الصغيرة؟ ماذا عن المغارة؟ هل تلاشت في الحطام أيضاً؟ حملق يامِن في الركام المحيط به محاولاً أن يجد أثراً يدلّه على غيث وفاطمة وسهيلة. لكنّ الغبار كان يغطّي كلّ شيء بطبقة سميكة، والركام يتغلّف بالركام. لقد تبخّرت الأصوات في هذه البقعة من المدينة وهجرها أهلها، أو ماتوا. حتّى قبّة السماء، التي كانت قبلاً زرقاء، تحوّلت إلى امتداد رماديّ كثيف لا يشبه السماء في شيء. لكنّ طبقة الغبار ما لبثت أن انشقّت عن كوّة ضوئيّة بدا له منها أنّ ثمّة بيتاً يلوح في آخر الشارع. «غريب أمر هذا البيت»، قال يامِن في سرّه، «يبدو أنّ موجة الركام لم تصل إليه بعد». لم يخطر في باله أنّ هذا كلّه ربّما يكون سراباً من صنع مخيّلته الطفوليّة. قصد يامِن البيت. وما كاد يصل إليه، حتّى أدرك أنّ ما حسبه بيتاً هو مجرّد غرفة متواضعة تنتصب أمامها شجرة لم يقوَ على تحديد نوعها. رأى الباب موارباً فدخل. وإذا به يسمع صوت رجل يهتف به: «أهلاً يامِن، هل أتيت لوحدك؟ ماذا عن أصدقائك؟ أنا في انتظاركم منذ أتيتم المغارة السنة الماضية». فكّر يامِن في مَن يكون هذا الرجل. لكنّه استحى من أفكاره ولم يسأل. هل هذا هو المكان الذي جاءه السنة الماضية مع غيث وفاطمة وسهيلة كي يتفرّجوا على المغارة المنصوبة فيه؟ لا يذكر أنّه كانت هناك شجرة. والأنكى أنَه لا يستطيع رصد نوعها على الرغم من أنّه تعلّم تحديد هويّة أشجار المدينة جميعها من فرط التحديق في شكل الأوراق وكيفيّة التصاق الجذوع بالأرض. آنذاك، أتوا وأيديهم الصغيرة يملأها الخواء. وحين رأوا أنّ ثمّة من يحمل الهدايا للطفل وأمّه، قرّروا أن يرجعوا بعد سنة وأن يحملوا معهم أشياء خيّل إليهم أنّ مريم وطفلها سيفرحان بها: قشر الليمون المجفّف الذي حين يُمزج بالشاي يصبح مذاقه ولا أطيب، أشكال كهيئة الطير من خشب الزيتون العتيق يتسلّى بها الطفل حين يكبر قليلاً، وربّما يصنع مثلها بمساعدة أبيه، وصعتر بلديّ ممزوج بالسمّاق هو أفضل طعام في الشتاء حين يُخلط مع زيت الزيتون. عاجلته هذه الأفكار في لحظة واحدة. وسرعان ما وجد نفسه يجيب: «كنّا نجدّ الخطى، يا سيّدي، أنا وغيث وفاطمة وسهيلة، كي نأتي إلى المغارة كما في السنة الماضية، حتّى إنّنا هيّأنا للطفل هدايا لئلّا نأتي لزيارته وأيدينا فارغة: ليمون مجفّف وزيتون وصعتر. لكنّ الركام سقط على المدينة ونحن في الطريق. فتّشت عن أصحابي ولم أجدهم. كان الغبار الكثيف يغلّف السماء والفضاء والدروب. وفجأةً اخترق خيط من النور الكثافة، فرأيت البيت وأتيت». «شكراً على الهدايا. أمّي مريم ستفرح بها كثيراً». صُعق يامِن لكلام الرجل. حملق طويلاً في عينيه كي يتأكّد من أنّه لا يحلم، ثمّ هتف: «أنت طفل المغارة؟ كيف كبرت بهذه السرعة»؟ فأجابه الرجل: «هممم. من الصعب أن أشرح لك الموضوع. الأمور، كما تعرف، تتغيّر بسرعة. أنظر إلى هذه الشجرة مثلاً. هي لم تكن هنا السنة الماضية. حتّى أنا تفاجأت بها. هل تعرف نوعها»؟ أطلق يامِن زفيراً كأنّه يطرد الخيبة من جوفه: «للأسف، لم أستطع تحديد نوعها. هي فعلاً لم تكن هنا السنة الماضية. لا أعرف نوعاً من الأشجار ينمو بهذه السرعة». ثمّ أخرج يامِن هداياه من قلب كيس القماش ووضعها في إحدى زوايا الحجرة. حدّق الرجل في عيني يامِن، ثمّ لامس بأصابعه شعره الفحميّ المشعّث بالغبار، وقال: «إسمع يا صديقي. لقد فرحت كثيراً بزيارتك وهداياك. إذا عثرت على أصدقائك، قل لهم إنّي أسلّم عليهم وأفكّر فيهم. وإذا ابتلعهم الركام وشعرت أنت بالوحدة، تعالَ إلى هنا واجلس بقرب الشجرة فتتعزّى». عاجله يامِن بالسؤال: «هل ستأكل من الصعتر في الشتاء، وتشرب الشاي مع قشر الليمون المجفّف؟ إنّه فعلاً لذيذ». أجاب الرجل بصوت خافت: «ليس عندي شكّ في ذلك. لكن عليّ أن أغادر هذا البيت بسرعة. ثمّة أمور كثيرة تنتظرني في هذه المدينة المهدّمة. إسمع. أتتني فكرة. سأصطحب معي بعضاً من الصعتر. ولا بدّ لي من أن أعثر في إحدى زوايا البيوت على شيء من زيت الزيتون». سأله يامِن بلهفة: «وهل ستكون هنا بعد سنة. هل آتي إليك في السنة القادمة»؟ أجاب الرجل بصوت متهدّج: «لا أعرف، ولا أستطيع أن أعدك بشيء. لكن إذا جئت أنت وكنت أنا هنا، سنشرب الشاي معاً. ندسّ فيه قشور الليمون الجافّة، فيصبح طعمه أطيب، يذكّر بالحقول حين تعود إليها البراعم في الربيع وتتفجّر منها الحياة». أدنى الرجل شفتيه من وجه يامِن وطبع قبلةً على جبينه. حين نظر الطفل إلى عيني الرجل كي يقول ما لم يستطع أن يتفوّه به لسانه، بدت له العينان واسعتين مثل أفق. خرج الرجل من البيت بخطوات سريعة، لكنّها ثابتة تنمّ عن ثقة بالأرض على الرغم من الركام المتراكم. أمّا الشجرة الملتبسة، فتراءت للطفل كأنها نخلة باسقة تحرس البيت، وتهتزّ لرحيل الرجل فيما هو يمتطي الريح ويُسرع الخطى في اتّجاه البحر… أسعد قطّان
بعضهم ينتظر خارجاً في الطابور حتّى يُسمح له بالدخول وشراء بطاقة. بعضهم قرّر التحايل على الطوابير عبر ابتياع بطاقة إلكترونيّة قبل أسابيع، أو حتّى أشهر. ثمّة من حضر منفرداً. وثمّة عائلات. وثمّة مجموعات يتقدّمها مرشد (أو مرشدة) غالباً ما يستلّ شيئاً يشبه الراية لئلّا تتيه مجموعته في غياهب الحشود المتدفّقة كأنّها الموج. حين تقف في حضرة المتحف الفاتيكانيّ، وتتأمّل هذا الكمّ الهائل من البشر، تدرك معنى أن تكون روما المدينة التي لا تنقطع فيها السياحة لا صيفاً ولا شتاءً؛ كيف لا وهي المدينة المضطربة في خلودها فلا تقرّ ولا تنام. تراهم يتوجّهون زرافات زرافات نحو متحف بيو-كليمنتينو، وهو أشهر المتاحف الفاتيكانيّة على الإطلاق لما يضمّه من كنوز: مجموعة لاووكون، ناووسا القيصر قسطنطين وأمّه هيلانة، وطبعاً الحُجرات التي زيّنها رافاييلّو بجداريّات تكاد تتكلّم، وكنيسة البابا سيكتوس الرابع المعروفة بال cappella sistina. فيها يجتمع الكرادلة كي ينتخبوا أسقفاً جديداً على روما ورأساً للكنيسة الكاثوليكيّة، فتقفَل الأبواب، وتغمض الوجوه في الجداريّات عيونها مهابة. يقال إنّ ميكالانجلو حين طلب منه البابا رسم هذه الجداريّات، قال معترضاً إنّه نحّات ومجرّد هاوٍ في الرسم. لكنّ البابا أصرّ. كان الرجل قد طعن في السنّ وبدأ يشعر بأنّ ثمّة من ينافسه في الحجرة الملاصقة، رافاييلّو الذي ما زال في ريعان الشباب فيما فلورنسا العظيمة تصطخب بموهبته. لكنّ هذا الهاوي الشيخ خلّف لنا كثافة جمال في الكنيسة الصغيرة لا يسع من يتأمّلها سوى أن يسأل ذاته كيف يتنزّل هذا على البشر ومن أين. أمّا رافاييلّو، فقد خلّد زميله الكهل حين استعار وجهه لأحد الفلاسفة في رائعته «مدرسة أثينا» وكأنّه يرفع له القبّعة قائلاً: «لا بدّ من أن يعرف العالم بأسره أنّك كنت في خاطري، يا سيّد الألوان، حين اختصرتُ أنا الفلسفة القديمة في جداريّة واحدة». كلّهم يذهبون إلى ميكالانجلو ورافاييلّو ولا أحد يكاد يلقي نظرةً، ولو هاربة، على الكنوز التي تختبئ في البيناكوتيكا الفاتيكانيّة. هناك لا حشود ولا سيّاح، ولا مجموعات تتقدّمها رايات. وحدهم الزائرون المنفردون والعتمة الملتبسة يصنعون مناخ هذا المكان الذي تخاله مرميّاً على قارعة الأشياء. لكنّ من قرّر الحجّ إلى الفنّ الذي هنا، بعيداً من الهدير والضجيج وما قرّره منظّمو الرحلات السياحيّة لمجموعاتهم، تنتظره مفاجآت لم تخطر في بال: سلسلة من جداريّات عصر النهضة، وتحديداً من القرن الخامس عشر، عُثر عليها في كنيسة الرسل في روما، ثمّ جرى نقلها إلى هنا بغية حمايتها من الاندثار. لوحة «إنزال المصلوب» لأكثر الرسّامين جنوناً في العالم ميكالانجلو ميريزي دا كارافاجو (١٥٧١-١٦١٠)، هذا الذي استعار وجه مومس رومانيّة كي يرسم ملامح مريم العذراء في لوحة تحتضنها إلى اليوم كنيسة القدّيس أوغسطينوس. أعماله المتناثرة في كنائس روما ومتاحفها تشهد على انزياحات المقاربة الفنّيّة التي أطلقها عبر تكريسه جدليّة النور والظلمة، معبّداً الطريق لعباقرة أتوا من بعده مثل رامبرانت وجورج دي لاتور. ولعلّ ذروة ما ينطوي عليه هذا المتحف هو مجموعة من النماذج الغريبة التي تعود إلى مشغل جيان لورنزو برنيني (١٥٩٨-١٦٨٠)، أهمّ نحّاتي حقبة الباروك في إيطاليا والعالم. هذه النماذج، وهي في معظمها وجوه، لم تكن سوى مجرّد «مسوّدات» تدريبيّة يستند إليها النحّات العظيم وتلامذته إبّان العمليّة الإبداعيّة التي تفضي إلى ولادة العمل الفنّيّ. لكنّها هنا، عبر حضورها الغامض في المتحف، أقرب ما تكون إلى عمل فنّيّ حديث تلفّه احتمالات المعنى، وتتحوّل فيه الوجوه ذات القسمات التي تشبه الأحاجي إلى فضاء تسكنه استعارات لا تُفصح بسهولة عن دلالاتها. «يقولون في روما إنّ مسرح الكوليسييو إذا ما اندثر، لن تبقى روما». هذا ما كتبه جورج خضر، ذات يوم، بعد عودته من إحدى زياراته إلى المدينة التي تتّكئ على خلودها على الرغم من نزق الشباب الذي يخترق شوارعها. هل تبقى روما هي ذاتها إذا ما اندثر متحفها الفاتيكانيّ؟ أسعد قطّان
فيما تخوض إسرائيل حروبها في غزّة على وقع عدد القتلى المدنيّين، وفيما يخوض حزب الله في جنوب لبنان حرباً لا قرار لها على وقع القرار الإيرانيّ بعدم الانخراط في الحرب، أعلنت كلّ من «رويترز» ووكالة الصحافة الفرنسيّة، قبل أيّام قليلة، أنّ إسرائيل هي من استهدف صحافيّيها في جنوب لبنان: السرديّة الإسرائيليّة كاذبة، القتل أتى عن سابق الإصرار والترصّد، لم يكن ثمّة مجال للخلط بين الصحافيّين ومقاتلي حزب الله. كلّ هذا معلّل وموثّق بالأدلّة، ويتقاطع مع ما توصّلت إليه أيضاً كلّ من مؤسّستي «هيومن رايتس ووتش» و«أمنستي إنترناشيونال»، اللتين اعتبرتا أنّ الجريمة ضدّ الصحافيّين ترقى إلى مصافّ جرائم الحرب. هاتان المؤسّستان بالذات كانت لهما قبل زمن ليس بطويل مواقف جريئة حيال ما يجري في إسرائيل من ممارسات الفصل العنصريّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ. أمّا التحقيقات التي قامت بهما وكالتا الصحافة، فكانتا بالتعاون مع منظّمة بريطانيّة غير حكوميّة تدعى Airwars، ومع منظّمة هولنديّة للبحث العلميّ التطبيقيّ تدعى TNO مختصّة بتحليل الأسلحة والذخائر. ألم تلاحظوا شيئاً غريباً؟ كلّ هذه المؤسّسات مؤسّسات غربيّة. أليس مستغرباً أنّ الاعتداء لم يجرِ مثلاً على وكالات صحافيّة إيرانيّة أو روسيّة أو صينيّة؟ أليس مستغرباً أنّ مراكز البحوث التي انخرطت في إماطة اللثام عن الجريمة مراكز غربيّة، لا إندونيسيّة ولا آذريّة ولا سعوديّة، ولا حتّى برازيليّة أو كولومبيّة؟ طبعاً مفهوم المنظّمة غير الحكوميّة هو أيضاً مفهوم غربيّ، وهو يقوم بالدرجة الأولى على الخبرة أنّ الحكومات غالباً ما تكون لها أجندات سياسيّة تتناقض مع مصالح الأفراد ومصالح الجماعات. في هذا السياق، تعريب الألفاظ مفيد أحياناً: «هيومن رايتس ووتش» هي المؤسّسة التي تراقب مدى الالتزام بتطبيق شرعة حقوق الإنسان في أنحاء العالم كافّةً. طبعاً، هذه الشرعة مشروع أتانا من الغرب على الرغم من أنّه ذو بعد عالميّ لا يرقى إليه الشكّ. كان شارل مالك، أحد الذين اضطلعوا بدور ذي شأن في صوغ هذه الشرعة، يقول إنّ واضعيها كانوا، في معظمهم، يدورون ثقافيّاً في فلك المسيحيّة البروتستنتيّة. البروتستنتيّة هي الحركة الإصلاحيّة الأهمّ في العقل المسيحيّ، إذ لولاها لما كانت هناك فلسفة تنويريّة (يكفي أن نتذكّر إيمانويل كانط) ولا كان هناك نقد تاريخيّ للكتاب المقدّس. يتقاطع مع ملاحظة مالك هذه أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة لم تتبنَّ منظومة حقوق الإنسان إلّا إبّان ستّينات القرن الماضي، وتحديداً في إطار المجمع الفاتيكانيّ الثاني. يومها، غلّبت الكثلكة منطق احترام حقوق الأفراد على منطق المؤسّسة، أي منطق قيافا، صالب يسوع، فنجحت في أن تكون أمينةً للإنجيل. شارل مالك نفسه كان أرثوذكسيّ الانتماء، لكنّه كان ينتسب فلسفيّاً إلى السكولاستيكيّة الكاثوليكيّة، وتحديداً إلى فلسفة القدّيس توما الأكوينيّ، وهو مع ابن رشد، المسلم العظيم الذي آمن بمرجعيّة العقل، عميد فلاسفة ما درجنا على تسميته «القرون الوسطى». فضح جريمة قتل الصحافيّين يأتي، إذاً، من هذا المدى الغربيّ الذي يؤمن بقيم راسخة كالعدل والحرّيّة وحقوق الإنسان وتغليب منطق الحقّ على منطق القوّة. لقد تعرّض هذا الغرب للسباب كثيراً في الأسابيع الماضية بسبب سقطته الأخلاقيّة المروّعة في غزّة. مردّ هذه السقطة هو تغليب منطق المصلحة السياسيّة والعقد التاريخيّة والتأويلات المنحرفة للكتب المقدّسة على منطق الحقّ والعدالة وحقوق الإنسان. لكنّ التعاطف المذهل مع قضيّة فلسطين، بعدما أًُغرقت وسائل التواصل بصور الدمار والخدّج المشلوحين على ما يشبه الأسرّة في مجمّع الشفاء، كان في الغرب أيضاً، في شوارع نيويورك ولندن وجينيف، لا في شوارع موسكو وبكين. والنقاش الذي يدور اليوم حول مستقبل المأساة الفلسطينيّة المستمرّة منذ خمس وسبعين سنة، وضرورة إيجاد حلّ عادل لها، يدور في جامعات الغرب، التي تضامن طلّابها مع السرديّة الفلسطينيّة متحدّين البروباغندا الصهيونيّة، لا في جامعات طهران والرياض والدوحة. ليس الغرب ملاكاً بالطبع، لكنّ مقاربته وكأنّه جوهر ثابت لا يتغيّر وأنّه، تالياً، «محكوم» بتنفيذ مصالحه على حساب الانتصار للحقّ والعدل إنّما هو ضرب من السذاجة المطبقة. هذا الغرب الذي تعاطف مع إسرائيل بسبب ما حصل يوم السابع من أكتوبر هو إيّاه الذي يدينها اليوم على جرائمها. كيف يمكن لذلك أن يحصل؟ السبب بسيط: الغرب لم ينتج منظومة مصالح فحسب، بل أنتج أيضاً حضارةً تستند إلى العقل الذي تكمن عبقريّته في أنّه يصحّح ذاته. وأنتج ثورات من أجل العدالة وإلغاء العبوديّة. وأنتج زخماً للحرّيّة وصحافةً للحرّيّة حين تلّقفناهما في هذا الشرق صنعنا نهضةً عربيّةً ارتجّت لها الدنيا. وأنتج شرعةً لحقوق الإنسان، ومفهوماً لجرائم الحرب، وماهيّةً للجرائم ضدّ الإنسانيّة، التي باسمها كلّها يلاحَق المرتكبون في إسرائيل، وسيلاحَق المغتصبون جميعاً حتّى بعد موتهم وإلى أن تقوم القيامة. هذه الحضارة الغربيّة، في أثمن وأجمل وأبهى ما أبدعته، يستطيع الآخرون أن يتلقّفوها ويستدخلوها ويصبحوا جزءاً من ديناميّتها، ولا سيّما في نقدها لذاتها، كما نتعلّم من شارل مالك اللبنانيّ وإدوارد سعيد الفلسطينيّ ومشروع النهضة العربيّة الذي لم يخبُ بريقه إلى اليوم. ما تحتاجه الحضارة الصينيّة العظيمة ليس مفكّرين ينتقدون الغرب، بل مفكّرين ينتقدون ثقافتهم هم. وما يحتاجه الفكر على ضفاف الفولجا ليس فلاسفةً يشرحون لنا كيف تختلف روسيا عن الغرب، بل فلاسفةً يطبّقون المنهج النقديّ «الغربيّ» (مع الاعتذار من ابن رشد) على تاريخهم هم، وثقافتهم هم، وما يقوم به قياصرتهم الجدد اليوم من سياسة قاصرة. لا أسهل من أن ننتقد حضارة العقل والنقد والقيم التي أنشأها الغرب. لكن من الصعب أن نأتي ببديل لها يكون مقنعاً. أسعد قطّان
بمناسبة بلوغ المطران جورج خضر عامه المئة، نظّم معهد الدراسات الإسلاميّة والمسيحيّة في كلّيّة العلوم الدينيّة التابعة لجامعة القدّيس يوسف في بيروت ندوةً تناولت مسألة التجديد اللاهوتيّ في فكر المطران جورج خضر (٢٠٢٣/١٢/١). وتندرج هذه الندوة ضمن سلسلة محاضرات بعنوان «وجوه حواريّة». افتتحت الندوة مديرة المعهد رولا تلحوق بكلمة قصيرة رحّبت فيها بالحاضرات والحاضرين، ونوّهت بالدور الثقافيّ الذي اضطلع به جورج خضر، وبما تهدف إليه سلسلة المحاضرات من مساهمة في الحياة الثقافيّة على الرغم من الظروف الصعبة التي يشهدها لبنان. ثمّ تلا عميد معهد الدراسات الدينيّة، الأب صلاح أبو جودة اليسوعيّ، كلمة رئيس الجامعة الأب سليم دكّاش، والتي عرّج فيها على بعض محطّات فكر خضر، ولا سيّما ذاك المتّصل بقضيّة فلسطين. وكانت مفاجأة الندوة محادثة قصيرة مع المطران المحتفى به سُجّلت قبل يوم واحد، وقد شدّد فيها على مركزيّة المحبّة والالتصاق بالمسيح والاستغناء عن كلّ شيء في سبيل خدمة الآخرين. أوّل المتكلّمين (حضوريّاً) كان الأب غي سركيس، أستاذ اللاهوت العقائديّ في الجامعة، وقد تكلّم على نظرة خضر إلى الأديان الأخرى. أشار المحاضر إلى اعتقاد خضر بفعل كلمة الله وروحه، اللذين كتب عنهما إيريناوس أسقف ليون إبّان القرن الميلاديّ الثاني أنّهما «يدا الله»، في الأديان خارج المسيحيّة. هذا الحضور يربطه خضر خصوصاً بتعليم يوستينوس الشهيد والفيلسوف (القرن الثاني) عن الكلمة المبذور في الفلسفة، إذ يعتبره صالحاً للتعميم على الأديان، ولا سيّما على الإسلام الذي يضطلع، في رأي الأب غي، بمكانة خاصّة في مقاربة مطران جبل لبنان السابق. أمّا عن موقف خضر من اليهوديّة، فهو يترجّح، بحسب المحاضر، بين الإيمان بسماحتها وانتقادها على ما يظهره بعض المنتمين إليها من عنف. ويرى الأب غي أنّ موقف خضر من دولة إسرائيل انعكس على قراءته لليهوديّة. على وجه العموم، يعتصم خضر بالموقف الاحتوائيّ (inclusif) الذي يفسّر التجلّيات في الأديان غير المسيحيّة عبر نسبتها إلى المسيح والروح القدس. الكلمة الثانية كانت للاختصاصيّ في علوم التأويل وجيه قانصوه (حضوريّاً)، وهو أستاذ محاضر في جامعة القدّيس يوسف. تركّزت المداخلة على مقاربة خضر للإسلام والمسلمين. ورأى قانصوه أنّ ما تمتاز به هذه المقاربة هي المعيّة أو «النحنويّة» (نسبةً إلى ضمير نحن) معتبراً أنّ خضر أخرج العلاقة الإسلاميّة المسيحيّة من شكليّة خاوية، وذهب بها إلى أفق الحوار المقترن بالمحبّة. فإذا كان هدف الحوار ليس اختراق المنظومتين الدينيّتين، إذ كلّ واحدة منهما تتّسم بكمالها من حيث منطقها الداخليّ، فإنّ هدفه، إلى جانب التوضيح والاستيضاح، هو اختراق التاريخ بالعقل النقديّ، وتشكيل الحاضر عبر مواجهة التحدّيات المجتمعيّة والسياسيّة والثقافيّة المشتركة. أمّا المحبّة، فتتيح للحوار أن يحتمل المعاتبة والتعبير عن الوجع والقلق، إذ تجعله قادراً على الشفافيّة. وعند قانصوه أنّ هذا القلق لم يكن على مصير المسيحيّين في الشرق فحسب، بل على أحوال المسلمين أنفسهم أيضاً. المتكلّم الثالث كان جورج تامر (افتراضيّاً)، أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلاميّة في جامعة إرلنغن (ألمانيا). تمحورت مداخلة تامر على مفهوم «حارة النصارى» في أدب جورج خضر، وهو الذي وصّف نفسه أنّه «صبيّ فقير من حارة النصارى». وقد بيّن المحاضر كيف أنّ المفهوم الوضعيّ لهذه الحارة، والذي يعود إلى أحوال المسيحيّين بوصفهم أهل ذمّة في المدينة التي يحكمها المسلمون، يتحوّل لدى خضر إلى مفهوم إنسانيّ وروحيّ. فالحارة تشير، أوّلاً، إلى اجتماع المسيحيّين حول هذا الزخم الروحيّ المنبجس من موت مسيحهم على الصليب وقيامته والاجتماع حول جسده ودمه في القدّاس الإلهيّ. وهي تحيل، ثانياً، على انفتاحهم على من هم خارج هذه الحارة، ولا سيّما على جيرانهم المسلمين، الذين يتشاركون معهم في الحضارة ذاتها والجماليّات ذاتها في اللغة والأدب والفنّ، ويبنون وإيّاهم المصائر المشتركة. هكذا يبدو مفهوم الحارة مرتبطاً بالتاريخ، من طريق تذكّر الماضي، ومتجاوزاً إيّاه في آن معاً. الجولة الثانية من الندوة افتتحتها ثريّا بشعلاني (حضوريّاً)، أستاذة اللاهوت المسكونيّ في جامعة القدّيس يوسف، بمداخلة عن فكر جورج خضر المسكونيّ. تقصّت المحاضرة في نصّها مساهمة خضر في وثيقة البلمند (١٩٩٣)، التي عالجت مسألة الكنائس الشرقيّة التي انضمّت إلى كنيسة الغرب الكاثوليكيّة، كالروم الكاثوليك مثلاً. ثمّ توقّفت بشعلاني مطوّلاً عند نصّ خطّه خضر العام ٢٠١٦ رأى فيه أنّ المسيحيّين جميعهم متّفقون على الإيمان بالمسيح والذات الإلهيّة، وأنّ اختلافاتهم تتّصل بالمفاهيم المستخدمة والاجتهاد اللاهوتيّ وشجون التاريخ، لكنّها لا ترقى إلى مصافّ الجوهر. أمّا المحطّة الثالثة، فكانت عن انخراط خضر في تعميق التعاون بين الكنائس على مستوى لبنان والمنطقة، ولا سيّما عبر دعمه لمشروع كتاب التعليم المسيحيّ المشترك الذي أُقرّ في دير الشرفة العام ١٩٩٦. المتكلّمة الخامسة كانت سيلفي أفاكيان (افتراضيّاً)، وهي قسّيسة وأستاذة محاضرة في اللاهوت النظاميّ في جامعة توبنغن (ألمانيا). تناولت أفاكيان في مداخلتها موضوع ديناميّة الروح في فكر خضر مستندةً بشكل أساسيّ إلى كتابه «لو حكيت مسرى الطفولة» (١٩٧٩). أظهرت أفاكيان، في مداخلتها، كيف أنّ خضر، على الرغم من تثمينه المعرفة العقليّة والعلميّة، هو في خطّ الآباء الشرقيّين، الذين يعتبرون أنّ معرفة الله تقوم على لقاء القلب بالحضرة الإلهيّة. وعند أفاكيان أنّ لغة خضر الشعريّة، غير الوضعيّة والمعتنية بالاستعارة، تنسجم مع هذه المعرفة الروحيّة التي قوامها المحبّة. كذلك أشارت إلى أنّ حركة صعود الإنسان إلى الله، بعد نزول الله إليه بالمسيح، يقابلها في فكر خضر بعد ثالث هو حركة نزول الإنسان إلى العالم، أي إلى الآخرين، عبر تخطّي الذات. هكذا فإنّ ديناميّة الحوار مع الآخر هي صنو ديناميّة الروح في الإنسان. الكلمة الأخيرة كانت للأب إيليّا متري (حضوريّاً)، كاهن رعيّة القدّيسين بطرس وبولس للروم الأرثوذكس في الحازمية، وقد تناول مسألة الرعاية لدى خضر. منطلق المحاضر لم يكن صفحات خضر «الذهبيّة» التي خلّفها لنا، بل حضوره الذهبيّ بوصفه أباً وأخاً وصديقاً. الأب هو من يقدّم أغلى ما عنده من أجل رعيّته، إذ لا يؤتى بالإنسان إلى مواقع القيادة في الكنيسة كي ينتفعوا بالمناصب أو يتدغدغوا بالسلطة. ولأنّ الكنيسة مجتمع بشريّ أيضاً، فأبوّة الأسقف تعني أنّها ليست مجتمعاً متروكاً. لفظة «الأخ» تنطوي، بالنسبة إلى المحاضر، على شيء من الندّيّة. فلئن كان المطران خضر يحيا في بيت معمّر بالكتب، إلّا أنّه يقعد مع مجالسه قعدة تلميذ يصغي ويتعلّم. هذا لا يأتي من طاعة المسيح فحسب، بل من حبّ خضر للمعرفة أيضاً. وتعني هذه الأخوّة أنّ المطران يعيش في بيت مفتوح للناس، ويستقبلهم بلا مواعيد. أمّا خضر الصديق، فصداقته لا تقتصر على أترابه في الكنيسة، بل تأخذه إلى الرحابة الإنسانيّة، إلى الناس أيّاً يكن دينهم أو مذهبهم أو معتقدهم. أعظم ما في جورج خضر، يقول متري، هو أنّه قادر على أن يحبّك في اختلافك، حتّى إنّه مقتنع أنّه لا يكمل من دونك. وختم الأب إيليّا بقوله إنّ قصده من هذه الكلمات هو أنّ رعاة الكنيسة الحقيقيّين، على شاكلة خضر، هم «الذين اجتمع فيهم الذهب في الكلام وفي الفعل». بعد انتهاء الندوة، تفرّق المشاركون والحاضرون. أمّا كلمات جورج خضر الذهبيّة، فبقيت ملتصقةً بمقاعد الجامعة التي عرفته طالباً للحقوق فيها يقرأ القرآن الكريم والفلسفة، ويحلم بالمسيح ينفذ إلى كلّ ذرّة من ذرّات الثقافة العربيّة. أسعد قطّان
«بعدك بتذكر يا وطا الدوّار بتذكر حكايتنا». هذه الأغنية الفيروزيّة الآتية إلينا مثل النبيذ الأحمر المعتّق في الخوابي المعتّقة تذكّرنا بأنّ الأخوين رحبانيّ صنعا من لفظ «حكاية» في العاميّة اللبنانيّة قضيّة القضايا. كان اسم العمل الغنائيّ، الذي يعود إلى العام ١٩٦٣، «حكاية الإسوارة». ومغزى الحكاية هنا أنّ البشر يعيشون من الحكايات، ولا سيّما من حكاية الحبّ التي يتوارثونها جيلاً بعد جيل، والتي تصير الإسوارة رمزاً لها، حتّى إنّ حيواتهم تصبح، بمعنىً ما، تنزّهاً بين احتمالات الحكاية التي تسبغ معنًى على الحياة: «كان بفي الرمّانة في بنت محتارة/وتضلّ متل التعبانة ولا تبوح بسرارا/وكان في بلبل عاشقها يحكيلا حكاية/بزهور يبقى يراشقها وتقلّو جايي». لا تنتهي حكاية «الحكاية» هناك، بل ترتحل كالخمر الجديدة، التي لم تعتق إلى اليوم، إلى محطّة جديدة اسمها «بيّاع الخواتم» (١٩٦٤). في هذه المسرحيّة السحريّة، التي تكاد تفوق أعمال الأخوين جميعها في انسيابها الميلوديّ والغنج الذي يتضوّع من جملها الموسيقيّة، يلجأ الأخوان إلى مفردات أخرى يتقاطع مفهومها مع مفهوم الحكاية: «رح نحكي قصّة ضيعة، لا القصّة صحيحة ولا الضيعة موجودة». أهمّ هذه المفردات في «بيّاع الخواتم» هو مصطلح «الخبريّة»، لكون النصّ المسرحيّ يعطي تحديداً له يحيلنا على المفاهيم الرحبانيّة التي تختبئ وراء النصّ الأدبيّ: «الأهالي بدّن حكاية، أنا خلقتلّن الحكاية (…) هيدي يا ريما مش كذبة، هيدي شغلة حدّ الكذبة، هي خبريّة، الكذبة صعبة، بس الخبريّة شعريّة، بتوعّي فيهن بطولة، بتقطف من إشيا مجهولة». فضلاً عن الترادف بين الحكاية والخبريّة، الذي يفوح من كلمات المختار (نصري شمس الدين) لابنة أخته ريما (فيروز)، ما تتّصف به الخبريّة هنا هو أنّها مقدودة من عالم الشعر، من قدرته على اجتراح عوالم جديدة ميتا-واقعيّة، لكنّها تتّصل، على الرغم من أثيريّتها، بالواقع اليوميّ، وذلك عبر قدرتها على التأثير فيه. فالناس ينفعلون بالحكاية المخترعة، يتعاطفون معها، ويسعون إلى تغيير واقعهم بفضلها. شرط هذا السرّ الكبير الذي يغلّف اللعبة الأدبيّة، والذي يقف الأخوان رحبانيّ مذهولين أمامه، هو الخيط السرّيّ الذي يربط الخيال الإنسانيّ بالحياة. فهذا الخيال، مهما تسامى ونأى، يبقى المعيش الإنسانيّ بخبراته ومفاهيمه وأشواقه منطلقه البديهيّ ومرجعه الطبيعيّ، لكون الإنسان لا يستطيع أن يخرج من جلده. تنزاح أشياء كثيرة في المقاربة الرحبانيّة للمسرح والنصّ الأدبيّ بعد هزيمة الجيوش العربيّة العام ١٩٦٧. اللافت أنّ هذا الانزياح كان قد بدأ يشقّ طريقه قبل النكسة، وحتّى على نحو شبه متزامن مع «بيّاع الخواتم»، وذلك على خلفيّة المأساة الفلسطينيّة: «حكينا سوا الخبريّة/وعطيوني مزهريّة/قالولي هيدي هديّة/من الناس الناطرين» (القدس العتيقة، ١٩٦٤). المزهريّة، بوصفها صورةً رمزيّة، عمرها من عمر «حكاية الإسوارة» على الأقلّ. هناك، إلى جانب التكّاية وبعد الإسوارة، هي الرمز الآخر للحبّ من حيث قدرته الجارفة على اجتراح «بيوت» جديدة وخلايا مجتمعيّة جديدة. يقال إنّ المزهريّة في «القدس العتيقة» لها حكاية تضرب جذورها في زيارة فيروز للقدس (١٩٦٤) والتقائها هناك بامرأة فلسطينيّة أهدتها مزهريّة. بيد أنّ هذه القصّة، إذا كانت صحيحة، لا تبدّل شيئاً من إيحائيّة الصورة في الشعر الرحبانيّ. في ما بعد، سنجد إمبراطور «يعيش يعيش» (١٩٧٠) يقول لهيفا (فيروز) في واحدة من لحظات يأسه «راحوا صحابي، انكسرت المزهريّة، وقعت بالليل». ولكن ماذا عن الخبريّة؟ ما هي هذه الخبريّة التي يحكيها الناس مع الأنا الشعريّة في «القدس العتيقة»؟ النصّ الشعريّ لا يترك مجالاً للشكّ. هي حكاية النكبة: «وبليل كلّو ليل/سال الحقد بفيّة البيوت/والإيدين السودا خلّعت البواب/وصارت البيوت بلا صحاب/بين بيوتن وبينن/فاصل الشوك والنار/والإيدين السودا». حيال الحكاية الفلسطينيّة المغمّسة بالاقتلاع والدم، تفقد الخبريّة الرحبانيّة بلّوريّتها وانتماءها إلى عالم الشعر، وتتحوّل إلى حكاية مغرقة في واقعيّتها ترويها فيروز في صراخ هادر، يشبه الزوبعة، كي تستيقظ الضمائر. في عيد فيروز الذي تغلّف هذه السنة بمشهد جديد من مشاهد التراجيديا الفلسطينيّة، ما زال الصوت الصارخ صارخاً. ثمّة ضمائر استيقظت وضمائر لم تستيقظ بعد. لكنّ الصوت سيظلّ مثابراً على حكاية الخبريّة التي تتحدّى طواغيت هذا العالم وسرديّات أساطينه. ولا بدّ لهذه الحكاية من أن تنتصر ذات يوم… أسعد قطّان
قبل بضعة أيّام، أطلق الفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس موقفاً مكتوباً ممّا يحصل في فلسطين وإسرائيل بعنوان «مبادئ التضامن». وقد وقّع النصّ، بالإضافة إليه، كلّ من الاختصاصيّة في العلوم السياسيّة نيكول دايتلهوف والحقوقيّ كلاوس غونتر والفيلسوف راينر فورست. حين تبنّى هابرماس هذا الموقف، يبدو أنّه سها عنه أنّ محمول نصّ من النصوص لا يقاس بما يقوله النصّ فحسب، بل بما لا يقوله أيضاً. ومن ثمّ، فإنّ المشكلة الأبرز في موقف هابرماس وصحبه، الذي صيغ بكثير من الإيجاز، هي أنّه يتجاهل أنّ الصراع الفلسطينيّ-الإسرائيليّ لم يبدأ يوم السابع من أكتوبر من العام ٢٠٢٣. جوهر هذا الصراع هو أنّ ثمّة شعباً يتعرّض للحصار والاضطهاد والتشريد الممنهج منذ عقود، أي لعمليّة عنف بنيويّة تراكميّة تصبح معها ردود الفعل العنفيّة شيئاً يصعب تفاديه، حتّى إنّه من السذاجة الاعتبار أنّه لن يحصل. بكلمات المخرج اليهوديّ المقيم في فرنسا ناداف لابيد: لا يمكن مطالبة الغزاويّين بأن يروا في الإسرائيليّين أبرياء، لا جلاّدين، إذا لم تُتَح لهم الفرصة أن يروا «الجمال» في غزّة أوّلاً. يستطيع هابرماس أن يتضامن مع دولة إسرائيل وحقّها في الوجود ما طاب له ذلك. لكن من غير المسموح به إنسانيّاً، وفلسفيّاً طبعاً، أن يعزل الأحداث عن سياقاتها، أو أن يتعاطى معها كأنّ لا سياق لها. أخذُ هذا السياق في الحسبان لا يبرّر، بطبيعة الحال، قتل المدنيّين في إسرائيل. والفيلسوف يعرف جيّداً أنّ الفهم شيء والتبرير شيء آخر. غير أنّ هذا الأخذ يتيح لنا أن نعتصم، على نحو أفضل، بأحد المبادئ التي يطالب بها الفيلسوف نفسه في نصّه، أي التناسب. لكنّ التناسب الذي يعنينا هنا ليس ذاك المرتبط بحجم الردّ العنفيّ، والذي يومئ إليه النصّ من دون أن يدين صراحةً الجرائم الإسرائيليّة التي فاقت بأضعاف ما قامت به حركة «حماس»، بل هو التناسب في قراءة الأحداث وتأويلها عبر وضعها في سياقاتها الحقيقيّة. هذا الابتعاد عن إنزال الأشياء في منزلها السياقيّ بالنسبة إلى المأساة الفلسطينيّة يقابله في النصّ إفراط في التركيز على السياق بالنسبة إلى المجتمع الألمانيّ، ما يجعل موقف الفيلسوف يقع في عدم توازن فاضح. طبعاً، ليس مطلوباً من هابرماس وزملائه أن يتجاهلوا سياق المجتمع الألمانيّ الذي يتوجّهون إليه. غير أنّ المطلوب منهم أن يفقهوا، وأن يفقّهوا هذا المجتمع، أنّ القضيّة إنسانيّة وأخلاقيّة بالدرجة الأولى، وهي تتخطّى متلازمة الذنب الحاضرة في ألمانيا بفعل المحرقة اليهوديّة. من الغريب أنّ نصّ السيّد هابرماس ينساق إلى الاختزال بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة كأنّ لا ماضي لها ولا حكاية، فيما لا يوفّر ذكر الهولوكست بوصفه أحد العناصر التي ترخي بظلالها على الثقافة السياسيّة في ألمانيا. بذا، يسقط النصّ الهابرماسيّ في فخّ اقتطاع الذاكرة عبر الاكتفاء بأن يختار منها ما يتناسب مع سرديّته، وكأنّه يحقّ لهذه السرديّة أن تحتكر «الخطاب» عبر تهميش السرديّات الأخرى. أمّا الفشل الأخير للنصّ الذي نحن في صدده، فهو سعيه إلى أن ينزع عمّا يجري في فلسطين صفة الإبادة الجماعيّة لشعب برمّته (genocide). المسألة خلافيّة طبعاً. وهي ترتبط بكيفيّة تحديد هذا المصطلح الذي يُطلق في العادة على المذبحة اليهوديّة والمذبحة الأرمنيّة، على سبيل المثال لا الحصر. المشكلة ليست هنا، بل تكمن في أنّ النصّ يقع مجدّداً في فخّ ما لا يقوله. وهذا الذي لا يقوله هو أنّ ما يرتكبه جيش «الدفاع» الإسرائيليّ في غزّة هو بمنزلة جريمة حرب موصوفة حتّى لو لم يكن إبادةً جماعيّة، وهذا يكفي لإدانته، وذلك لا بشهادة الفلسطينيّين، بل باعتراف المنظّمات الدوليّة ذات الباع الطويل. لعلّ النصّ الهابرماسيّ، في سعيه إلى نفي صفة الإبادة عمّا يجري في غزّة، يهدف إلى تفكيك المقارنة التي يقوم بها بعضهم بين المذبحة اليهوديّة والجرائم الإسرائيليّة في فلسطين. لكنّه يغفل عن أنّ الأدبيّات الإسرائيليّة هي أوّل من قام بعمليّة الربط بين الهولوكست وما جرى يوم السابع من أكتوبر. فإذا كان لا بدّ من فكّ للارتباط، فإنّه يجب أن يشمل الطرفين معاً. بكلمات أخرى: إذا كان ما تقوم به إسرائيل ليس إبادةً جماعيّةً للشعب الفلسطينيّ، فإنّ ما قامت به حركة «حماس» ليس استعادةً لمنطق المذبحة اليهوديّة. لقد اقتضى توضيح هذه الأشياء استناداً إلى العقل وإلى منطق العقل، الذي هو عماد الفلسفة. لكنّ الإغريق، عمالقة الفلسفة، يذكّروننا دوماً بأنّ الجهد العقليّ، مهما كان سامياً، يخسر صدقيّته إذا لم يكن في خدمة الفضيلة. بعبارات أخرى: الفكر الفلسفيّ يسقط إذا خسر مرجعيّته الإنسانيّة والأخلاقيّة. ومعه يسقط الفيلسوف مهما كان ذائع الصيت. أسعد قطّان
«إنّ الذين يعيدون إنتاج هويّتهم، يحتاجون إلى أعداء. وهذا غالباً ما يخلق ذاكرةً ذات هويّات إقصائيّة (…) ثمّة خلافات ذات ماضٍ دينيّ. غير أنّ هذا المحتوى الدينيّ هو اليوم غير ذي أهمّيّة. فأنت لا تحتاج إلى أن تكون مؤمناً بدينك كي تكره دين الآخرين». بجمل آسرة من هذا النوع ينفذ طارق متري إلى عقول مستمعيه، وإلى قلوب كُثُر منهم، ساعياً إلى عرض أطروحته المركزيّة والتبسّط فيها: ليس الحقد المتوارث عن السلف هو ما يولّد الحروب، بل إنّ الحروب هي مسبّب الحقد الذي يخيّل لنا أنّه متوارث. الدعوة هي من مؤسّسة «من أجل الشرق» (Pro Oriente) النمساويّة، العاملة في فيينا بشكل خاص مع امتدادات لها في غراتس (Graz) وزالتسبورغ (Salzburg) ولينز (Linz). والإطار هو مؤتمر علميّ بعنوان «شفاء الذاكرة المجروحة» (٩-١١ تشرين الثاني/نوفمبر) شارك فيه باحثات وباحثون من الولايات المتّحدة وأوروبا والعالم العربيّ. أمّا المكان، فهو أكاديميّة فيينا لإعداد الدبلوماسيّين. وقد شاء متري أن يسبغ على محاضرته عنواناً يومئ إلى موقعها المنهجيّ بين السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع: «الصراعات والذاكرة وإعادة إنتاج الحقد». إشكاليّة الذاكرة هي في صلب محاضرة متري، رئيس جامعة القدّيس جاورجيوس في بيروت حاليّاً، والآتي إلى السياسة والدبلوماسيّة من علم الاجتماع الدينيّ والعلاقات الإسلاميّة المسيحيّة.. ومن الثقافة الواسعة. وعند متري أنّ هذه الذاكرة كثيراً ما تتعرّض للانتهاك في أزمنة الصراع، إذ يجري إعادة إنتاجها، أو تنشيطها، في اتّجاه دون آخر طمعاً في إذكاء النزاعات، بحيث تتحوّل إلى وسيلة للانكفاء والتقوقع وتعميق المسافة بين الأفراد والجماعات. على هذا المستوى، يميّز متري بين الذاكرة والتقليدويّة، أي الاحتماء بالماضي والركون إليه. فالتعامل الاستغلاليّ مع الذاكرة، ولا سيّما من طريق ما تروّج له الميديا من مفردات ومفاهيم ومضامين، ليس معنيّاً بالماضي، بل بتشكيل الحاضر والمستقبل في سبيل خدمة أجندات سياسيّة. وبما أنّ الطغاة هم أكثر المهتمّين بالسيطرة على الذاكرة الجماعيّة، فإنّ الحدّ من سوء استخدام الذاكرة هو، في رأي متري، مسؤوليّة سياسيّة بالدرجة الأولى. حين وجّه المنظّمون الدعوة إلى الأستاذ الجامعيّ والسياسيّ السابق، ما كانوا يتوقّعون أن يخيّم على أعمال مؤتمرهم شبحُ الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزّة والضفّة الغربيّة جرّاء عمليّة «طوفان الأقصى». لم تكن فلسطين هي موضوع المحاضرة. لكن كان من الطبيعيّ أن ترخي الأيّام الفلسطينيّة بظلالها على جلسات المؤتمرين وعلى محاضرة متري. ولا غرو، فالنموذج الفلسطينيّ مثال فاضح على تعامل مع الذاكرة يفتقر إلى التوازن؛ إذ فيما يعتبر كُثُر من يهود إسرائيل أنّ ما حصل يوم السابع من أكتوبر يستعيد المذبحة النازيّة، أو ما شهدته أوروبا القرن التاسع عشر من كراهية وقمع لأسلافهم، فإنّ الحكاية الفلسطينيّة كثيراً ما تُختزل بالعمليّة التي قامت بها حركة «حماس» وكأنّ شيئاً لم يحدث منذ نكبة العام ١٩٤٨ إلى اليوم. ويرى متري أنّ هذا تعبير صارخ عن كيفيّة التعامل مع الذاكرة بشكل انتقائيّ وصولاً إلى إخراج مضمون الذاكرة من سياقاته التاريخيّة. ويرى أنّنا هنا أمام مقاربة تغلّب الحديث عن تمظهرات العنف الحالية (anatomy) عوضاً من تتبّع أسبابه وقصّة نشوئه (genealogy). بعد المحاضرة، كان ثمّة مجال للتلاقي وتبادل الأفكار، وللرجاء أن تشهد الأيّام المقبلة انقشاعاً لغمامة العنف التي تغلّف فلسطين. أسعد قطّان
مشكلة الحرب الدائرة في فلسطين اليوم أنّها قضيّة حقّ تغلّفها مصالح الباطل. القضيّة الفلسطينيّة لم تنتهِ يوماً لأنّها قضيّة حقّ: شعب أتى من يسلبه أرضه باسم إيديولوجيا قائمة على تزوير التاريخ وتأويلات عنصريّة للكتب المقدّسة، تطهير عرقيّ، تهجير، قتل واستباحة في أزمنة كان يستطيع العالم بعد فيها أن يتظاهر بالجهل وأن يختبئ وراء ترف الصمت. الحرب التي نشهدها اليوم لم تُعد إلى هذه القضيّة زخمها، فهذا الزخم لم ينقطع يوماً. لكنّها ذكّرت الناس الذين كانوا يتفكّهون بالنسيان أنّه ثمّة ما سيقضّ مضاجعهم ويؤرق رقادهم ويسحل راحتهم إذا هم استمرّوا في الحياة وكأنّ فلسطين غير موجودة. حتّى التعاطف الغربيّ الجارف مع دولة إسرائيل أتى مثقوباً: ثقبته أصوات الغربيّين، وعلى رأسهم الأمين العامّ للأمم المتّحدة، الذين هتفوا أنّ القضيّة أكثر تعقيداً من اختراق غلاف غزّة وقتل مئات المدنيّين هناك. ثقبته الأفلام التي توثّق الدمار العاتي (هل تذكرون؟ أيّام النكبة لم يكن هناك أفلام تصل بلمح البصر إلى العالم بأسره). ثقبه التضامن الكاسح مع فلسطين في غير بقعة في الأرض، ولا سيّما في صفوف كُثر من اليهود. وثقبه الصمت الذي يفوح من وجوه الذين يتضامنون مع القتلة لأنّهم يعرفون في قرارة أنفسهم أنّ جرائم الحرب ستبقى جرائم حرب حتّى بعد عشرات السنين، وأنّ الفلسطينيّ الذي لم يسكت في الماضي، ولا يسكت اليوم، لن يسكت في المستقبل. وسيحمل جروحه على راحتيه كي يكتب بمنطق الجرح خاتمة الحكاية. لكنّ الحرب الدائرة في فلسطين تغلّفها أيضاً مصالح الباطل. لا شيء يغفر لحركة «حماس»، وللإسلام الجهاديّ عموماً، مسعاهما إلى تحويل القضيّة الفلسطينيّة إلى قضيّة دينيّة فيما هي قضيّة إنسانيّة ووطنيّة تخصّ المسلمين وغير المسلمين؛ وتخصّ المؤمنين والعلمانيّين والملاحدة؛ وتخصّ الأحرار في الأرض كائنةً ما كانت مشاربهم؛ وتخصّ كلّ الذين يؤمنون بأنّ الحقّ، لا القوّة، يجب أن يكون المرجع، لا في السياسة فحسب، بل في الحياة برمّتها. لئن يحقّ للمرء أن يستمدّ طاقةً من دينه في سبيل مواجهة الظلم والقمع والعسف، إلّا أنّه لا يحقّ له أن يحوّل هذه المواجهة إلى معادلة دينيّة صرف. حريّ بالدين أن ينبجس منه العدل. لكنّ العدل لا يُختزل بالدين. تديين قضيّة فلسطين الذي اقترفته «حماس» كان الباب الذي نفذت منه دولة الملالي. فراحت تمارس زناها التوسّعيّ وتخوض صراعاتها الإقليميّة بالدم الفلسطينيّ. كان من «الطبيعيّ» أن تعلن دولة ولاية الفقيه أنّها لم تكن على علم بعمليّة «طوفان الأقصى» كي تحمي نفسها من أساطيل الفرنجة. فهذه هي الحجّة الوحيدة التي يمكن استخدامها لتبرير عدم فتح جبهة الشمال الإسرائيليّ ووضع الكيان الصهيونيّ بين فكّي كمّاشة كان يمكن أن تفضي إلى «تحرير القدس»، التي ما زال بعضهم يمنّي النفس بالصلاة فيها قبل أن يردّه الله إلى جوف الأرض. اليوم، وفي قراءة نقديّة للماضي لا بدّ منها، نكتشف أنّ الصوت الفلسطينيّ الذي فكّك الحلف بين «المتفقّهين» في إيران و«المتحمّسين» في فلسطين كان خافتاً على الرغم من حضوره. كذلك نكتشف أنّ السلطة الفلسطينيّة ضيّعت غير مرّة فرصة تصويب البوصلة، حتّى إنّها سقطت أحياناً في فخّ مغازلة المتديّنين وتبنّي بعض التأويل الدينيّ للقضيّة الفلسطينيّة من باب التنافس مع «حماس». غداً ينقشع دخان الحرب على الرغم من أنّ الطعنة التي تلقّتها إسرائيل في عنجهيّتها توحي بأنّ هذه الحرب ستطول. فهل تبقى القضيّة الفلسطينيّة في سوق النخاسة يتاجر بها رجل الدين الملتحي، أم إنّ ثمّة فجراً جديداً سيبزغ من قلب الكارثة التي تشلّع غزّة اليوم وتكاد تمتدّ إلى فلسطين بأسرها؟ أسعد قطّان
يحفل عدد لا يستهان به من نصوص التوراة بالعنف. نقرأ، مثلاً، في كتاب يشوع بن نون أنّ هذا أوعز إلى الشعب أن «يحرّموا بحدّ السيف» كلّ ما في مدينة أريحا من رجال ونساء، حتّى البقر والغنم والحمير. ونقرأ في كتاب الملوك الأوّل أنّ النبيّ إيليّا قتل أربعمائة نبيّ من أنبياء البعل بحدّ السيف. التوراة، في سردها مثل هذه الحوادث العنفيّة، لا تختلف عن كثير من النصوص الدينيّة الأخرى. لكنّ هذه الملاحظة لا تخفّف من وطأة المعضلة التأويليّة على قدر ما يرتبط العنف بالله نفسه في كثير من هذه المقاطع. ربّما يكون الحلّ الأسهل للتعامل مع مثل هذه النصوص هو التشكيك في تاريخيّتها. لا يمكن نكران الطابع الأسطوريّ لبعض نصوص التوراة. علماء الآثار يؤكّدون، مثلاً، أنّه في الزمن الذي من المفترض أن يكون قد حصل فيه دخول بني إسرائيل إلى أرض كنعان، وهذا يقوم طبعاً على التخمين، ليس ما يدلّ على خراب حصل في أريحا. ومن ثمّ، قصّة التوراة عن سقوط أسوار أريحا ليس هناك ما يشير إلى أنّها حدثت بالفعل. لكنّ التشكيك في تاريخيّة الحوادث العنفيّة لا يحلّ المعضلة المرتبطة بصورة الله في الكتاب المقدّس. بكلمات أخرى: إله التوراة يظهر عنفيّاً في بعض نصوصها بصرف النظر عن الحقيقة التاريخيّة. فإذا كانت الجماعة الدينيّة تقرأ هذه النصوص وتعتبرها مقدّسة، كيف نتعاطى مع صورة الإله العنفيّ الذي ينبثق منها؟ الطريقة الثانية التي يمكنها أن تسعفنا على تدبّر المقاطع العنفيّة هي قراءتها في سياقها النصّيّ، أي عدم عزلها عن السياق الأوسع الذي ترد فيه، ومحاولة تأويلها انطلاقاً من هذا السياق. هذه القاعدة التفسيريّة كرّسها الأقدمون حين قالوا بضرورة تفسير الجزء انطلاقاً من الكلّ، لأنّ الكلّ، كما كتب أرسطو ذات يوم، هو أكثر من مجموع الأجزاء منفردةً. ماذا يعني هذا تأويليّاً؟ عمليّة قتل أنبياء البعل، مثلاً، التي قام بها إيليّا، وبقطع النظر عن تاريخيّتها، هي جزء من كلّ. هذا الكلّ يبيّن أن الربّ لم يكن راضياً عن غيرة إيليّا المفرطة التي أفصحت عن ذاتها في قتل هؤلاء الأنبياء، حتّى إنّه يوبّخه بلطف عبر ظهوره له لا في الريح ولا في الزلزلة، بل في النسيم اللطيف. يأخذنا النصّ، إذاً، حين نقرأه بشكل غير مجتزأ إلى مكان آخر يظهر فيه النبيّ بوصفه غير معصوم عن ارتكاب الأخطاء فيما الربّ يتّخذ مسافةً من «هفوات» نبيّه ويؤدّبه على طريقته الفظّة. هذه المسافة بين مقاصد الله وسلوك أنبيائه تحيلنا على مسافة أخرى هي تلك القائمة بين صورة الله من حيث جوهره وصورته كما تنعكس في النصوص التوراتيّة. السؤال التأويليّ واضح هنا. فالله في العمق متعال عن أيّ نصّ من النصوص حتّى لو كان هذا النصّ ملهماً: «النصوص محاولات ولو ملهمة» (جورج خضر). لكن، من جهة أخرى، نحن لا نمتلك مدخلاً إلى معرفة الله إلّا هذه النصوص إيّاها. من الطبيعيّ، إذاً، أن نفترض أنّ ثمّة نصوصاً تستعلن فيها الذات الإلهيّة أكثر من نصوص أخرى، وأنّ هناك نصوصاً تحتجب فيها هذه الذات الإلهيّة أكثر من نصوص أخرى. بالمنطق ذاته، ثمّة نصوص تظهر فيها الذات الإنسانيّة، بما تختزنه من غلوّ ونزوع إلى العنف، أكثر من نصوص أخرى، فيما هناك نصوص يتراجع فيها الإنسانيّ كي يتيح للإلهيّ أن يمعن في ظهوره. لقد عبّر مكسيموس الراهب والمعترف، الذي عاش في القرن السابع، عن هذه الديناميّة المهولة بقوله إنّ الله «يظهر محتجباً ويحتجب ظاهراً». وهذا مردّه أنّ الله يختلف كلّ الاختلاف عن كلّ شيء في هذا العالم المخلوق، بما فيه النصوص التي أوحى هو نفسه بها، ويحاول، على الرغم من ذلك، أن ينفذ منها إلينا. من الواضح، إذاً، أنّ الوحي لا يلغي العناصر الإنسانيّة لدى الأنبياء، كما حال النبيّ إيليّا مثلاً، ولا لدى كتّاب النصوص بطبيعة الحال. كيف السبيل، إذاً، إلى «غربلة» النصوص المقدّسة، إذا جاز التعبير، وما هو المعيار الذي يمكن الاستناد إليه لتلمّس مكامن استعلان الله ومكامن احتجابه؟ المسيحيّة، التي تعتبر التوراة جزءاً لا يتجزّأ من كتابها المقدّس، تعطي جواباً عن هذا السؤال لا لبس فيه: المعيار هو محبّة الله ولا عنفيّته التي ظهرت عبر موت المسيح على الصليب. هناك رفض يسوع أن يقاوم الشرّ بالشرّ، وطلب من الله أن يغفر لصالبيه. كلّ نصوص الكتاب المقدّس يجب أن تُقرأ في ضوء هذا الحدث: ما يتّفق مع هذه المحبّة هو مكان لاستعلان الذات الإلهيّة، وما يختلف معها هو مكان لاحتجابها. ولكن ماذا عن اليهوديّة؟ اليهود يقرأون التوراة من خارج الإيمان بالمسيح، ومعظمهم ما زال يرى في ظاهرة يسوع الناصريّ مسألةً إشكاليّةً. غير أنّ هذا لا يغيّر من حقيقة أنّ ثمّة خطّاً بيانيّاً في غالبيّة النصوص التوراتيّة يغلّب المحبّة على العنف. فهذه النصوص تعلي من شأن الضعيف واليتيم والأرملة، وتدعو إلى احتضان الغريب وإلى محبّة القريب كمحبّة الذات. ولا شكّ في أنّ ظاهرة يسوع الناصريّ هي في تواصل واضح مع هذا الخطّ، الذي لا نعثر عليه في كتب الأنبياء فحسب، بل هو يكاد يكون حاضراً في كلّ سفر من أسفار التوراة على الرغم ممّا نجده فيها من تعدّد للأصوات والسياقات والمرامي. القارئ، إذاً، مطالب بأن يتّخذ قراراً. فهو إمّا أن يعتبر أنّ الأصل في الله تعكسه النصوص التي تعبّر عن المحبّة والرحمة واللطف ناسباً النزعات العنفيّة (وهي إحصائيّاً أقلّ بكثير) إلى بشريّة الكتّاب ونزواتهم؛ وإمّا أن يعتبر أنّ الأصل في الذات الإلهيّة هو العنف، فيلجأ إلى المقاطع التي تمجّد القتل والذبح والتنكيل كي يبرّر كلّ ما يعتمل في ذاته هو من فوقيّة وعنصريّة وقوميّة مفرطة. لكنّ السؤال الذي يرخي بظلاله هنا هو الآتي: إذا كان الأصل في الذات الإلهيّة هو العنف، كيف السبيل إلى تفسير كلّ هذا الفيض من الرحمة الذي يرشح من غير نصّ في التوراة؟ إذا كانت المحبّة هي الأصل، يسهل تفسير العنف بوصفه انحرافاً عن هذا الأصل مصدره مخيّلة الكتّاب ونزعتهم إلى إسقاط عنفهم على الذات الإلهيّة: «يا ابنة بابل الصائرة إلى الخراب… طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة» (مزمور ١٣٧). ولكن إذا كان العنف هو الأصل في الذات الإلهيّة، كيف نفسّر المحبّة المنسوبة إلى الله في الكثير من النصوص التوراتيّة؟ هذا كلّه يدلّ على أنّ قرّاء النصوص ليسوا مجرّد متفرّجين أو متلقّين، بل هم جزء لا يتجزّأ من عمليّة استخلاص صورة الله في النصوص المقدّسة وكيفيّة انعكاسها على مفاصل الحياة قاطبة. |
الكاتبأسعد قطّان أرشيف
December 2023
تصنيفات |